لا تظلموا غزة

جدار الاحتلال حول غزة
جدار الاحتلال حول غزة

في لحظات الهيجان العاطفي سيبدو أي استخدام للعقل، أو حتى مجرد الدعوة للتعقل وكأنها دعوة مشبوهة، متخاذلة، مثبطة للهمم، كما تجد بعض الأصوات المنفلتة فرصتها لممارسة متعة المزايدة على الآخرين، بل وإرهابها بمحاولة وصفها بأبشع الألفاظ، التي تذهب في معظمها إلى محاكمة النوايا، بل وإصدار أحكام مسبقة محملة بالإدانة، حتى دون منحها فرصة للدفاع عن نفسها، ومن المؤسف أن العقل أسرع انسحاباً من العاطفة في مثل هذه الأجواء، فتراه يبادر إلى الانكماش، والتراجع، وأحياناً يضطر إلى مجاراة حالة الهيجان، فيتخلى- دون قناعة- عن بعض مقولاته لصالح الهيجان الشعبوي، العاطفي، الذي يسهل توجيهه من الأصدقاء، والأعداء معاً.

يمكن لإسرائيل مثلاً أن تتعمد- إن أرادت- تهييجنا ببعض الأعمال الاستفزازية، وهي تدرك أننا سرعان ما نستجيب لأي مؤثر، خاصة وإن بدا هذا المؤثر ماساً بكرامتنا، أو مقدساتنا، حينها ستضمن بكل بساطة أن تندفع عواطفنا الوطنية الجياشة إلى صدارة المشهد، وأن ينسحب التعقل فاراً من تهمة التخاذل التي سرعان ما يلحقها به الثورجيون، وأصحاب الصوت العالي، وربما أصحاب القدرة على إلحاق الأذى النفسي، أو حتى البدني وتحت ذرائع تبدو وطنية، فتبدو هجماتهم وكأنها عمل وطني، كلما زادوا في وتيرتها كلما كانوا أكثر وطنية، وأكثر جهوزية للتضحية من أجل الوطن..!

اقرأ أيضاً: كاتب إسرائيلي.. فلسطينيو الداخل حطموا حصارهم ورفضوا نموذج السلام الاقتصادي

هذا لا يعني ألا ينفعل الفلسطينيون باسم التعقل، أو ألا يسعون لصد هجمات إسرائيل خشية أن تكون هذه الهجمات مجرد أعمال استفزازية تسعى من خلالها لتهييجنا، وبالتالي علينا تجاهلها، أو عدم محاولة عرقلتها.

نحن بشر ولسنا مجرد أدوات ميكانيكية، كما يحتوي تكويننا على جوانب نفسية كثيرة، وكفلسطينيين تحديداً فإن شعورنا الدائم بالمظلومية، والرغبة الكبيرة التي تسكن كل فلسطيني في الانتقام من معذّبِيه، أو رفعهم عن صدره، تجعل تفاعلنا العاطفي أمراً طبيعياً لا مفر منه، وليس المطلوب أصلاً ألا نتفاعل عاطفياً، بل ربما بعض لحظات نضالنا ستفقد فاعليتها دون دفعة العواطف، لكن المطلوب ألا يُسمح للعواطف أن تقود دفة مواجهة معقدة إلى أبعد حدود التعقيد كمعركتنا مع إسرائيل، إنما يمكن للعاطفة أن تحافظ على ديمومة الرغبة في المواجهة، وديمومة الرغبة في مواصلة النضال لانتزاع ما يمكن انتزاعه من الحقوق الفلسطينية.

شهدت الأراضي الفلسطينية خلال أقل من اسبوعين أعمالاً نضالية يمكن وصفها حتى اللحظة بالفردية، استطاعت هذه الأعمال المتواضعة أن تربك الساحة الإسرائيلية، وأن توقع فيها خسائراً أكثر مما كان يمكن لإسرائيل أن تتكبده في جولة جديدة من جولات الحروب التي تشبه ما سبق وشنتها على غزة خلال السنوات الماضية، بينما لم تتجاوز خسائر الفلسطينيين حدود الاستشهاديين أنفسهم،،، لقد أدخلت هذه العمليات إسرائيل بالفعل في حالة من الإرباك، فهي لا تعرف بالضبط كيف لها أن تواجه منفذي هذه العمليات، ولا تستطيع معرفة كيف يفكر كل شخص على حدة، يمكن له أن يقرر في لحظة ما القيام بعمل فدائي، سيلحق ضرراً لم تستطعه آلاف القذائف، ودون قدرة إسرائيل على معاقبة من يقف خلفه، حيث لا معالم لجهة واضحة، ولا مواقع ثابتة يمكن مهاجمتها، ولا كي وعي تستطيعه إسرائيل كما دأبت كل مرة من وراء حروبها المتكررة على غزة.

يتميز هذا الشكل النضالي بقدرته على تحقيق أهم غايات النضال الفلسطيني، المتمثلة في إبقاء جذوة الصراع مشتعلة إلى أن يحصل الفلسطينيون على حقوقهم، ودون تكلفة تفوق قدرة الفلسطينيين على مواصلة أسباب حياتهم، التي يحتاجونها ليس فقط لأنهم بشر ككل البشر يحتاجون إلى الحياة، إنما أيضاً كي يتمكنوا من الصمود في مواجهة طويلة المدى، لم تتوقف منذ قرن كامل من الزمن، وقد تستغرق قرناً آخراً، وفي حالة كهذه لا تستطيع إلا أن تسعى للحصول على الحياة، إن أردت مواصلة النضال، هذا ناهيك عن حق الناس الطبيعي في الحياة.

لن تروق لإسرائيل هذه الحالة التي يتضاعف فيها ما تدفعه من أثمان، مقابل القليل- نسبيا- الذي يدفعه الفلسطينيون،،، وإسرائيل هي الدولة المسيطرة، والقوة الغاشمة المهيمنة، لذلك لا يمكن لها إلا وأن تحاول رفع سقف الثمن الذي يمكن للفلسطينيين دفعه، فهل علينا أن نقدم لها على طبق من ذهب هدية دخول غزة على خط المواجهة؟

اقرأ أيضاً: الاحتلال يستخدم "الاعتقال الإداري" لردع فلسطينيي الـ48

غزة محاصرة، ومحاطة بجدار فولاذي، وهي لم تعد قادرة على مواصلة المقاومة إلا بالطريقة التي مارستها خلال جولات الحرب السابقة وهذه لا تشبه تلك الأعمال الفردية التي لا تجد فيها إسرائيل جهة تدفعها الثمن، بل مواجهة حربية تستخدم فيها إسرائيل أقصى ما لديها مقابل أدواتنا البسيطة التي تشبه في أسمائها ما تمتلكه الدول، فتبدو إسرائيل أمام العالم وكأنها تخوض حرباً نظامية متكافئة، تدافع فيها عن نفسها..!

ماذا يمكن لغزة أن تضيفه بهذه الوسيلة النضالية الوحيدة التي لا تستطيع غيرها؟

باختصار: 

أن دخول غزة على خط المواجهة ستترتب عليه أشياء لا يمكن تجاهلها، مثل:

أولاً: غزة لم تلملم جراح معاركها السابقة بعد، ولا يزال أهلها يئنون تحت نير الحصار الذي يكاد يفقد الناس فيها قدرتهم على مجرد الحياة.

ثانياً: ستنحرف الأنظار يقيناً عن الفعل الشعبي الرائع الذي يسطره أهلنا في الضفة، والقدس.

ثالثاً: سيكون لدى إسرائيل أهداف واضحة المعالم يمكن استهدافها بكل بساطة، وبأقصى قوة نارية ممكنة، وستنتهي كما انتهت إليه المرات السابقة بهدنة جديدة نحاول بعدها أن نعيد إعمار ما ستدمره الحرب، لكن دون أن نستطيع تضميد حراحنا النفسية، والبشرية التي لا زالت تنزف على أثر الحروب السابقة.

رابعاً: غزة ليست دولة عظمى حتى نضعها كل مرة في مواجهة ترسانة عسكرية تعجز جيوش كبيرة في المنطقة عن مواجهتها.

خامساً: إذا كانت غاية المقاومة التي نستطيعها هي الحفاظ على جذوة الصراع مشتعلة، فإن الأعمال الفردية أثبتت قدرتها على إنجاز هذه المهمة، كما أثبتت قدرتنا نحن على مواصلتها كل الوقت، دون أن نسعى لهدنة تكبل ديمومة فعلنا، وبالكاد نستطيع خلالها ترميم آثار ما يتركه العدوان.

لا تظلموا غزة، ولا تحملوها فوق طاقتها، فهي ليست المسئولة حصراً عن هزيمة إسرائيل، أو إزالتها، إنما كغيرها من كل جغرافيا فلسطين تحمل مسئولية المشاغلة، ودوام الصراع حتى ينال الفلسطيني حقوقه، ولو بالحد الأدنى الذي يتوافق مع المعطى السياسي، المحلي والإقليمي والدولي، لكن بالطريقة التي نستطيع مواصلتها، ومواصلة القدرة على تحمل تبعاتها.

غزة مدينة مسكينة فلا تدفعوها أكثر تجاه ما لا طاقة لها به.

سأختم بقول ما قلته مراراً وتكراراً:

إزالة إسرائيل لن تتم بقوانا الذاتية، وهذا ما يجمع عليه كل الفلسطينيين، ومن ثم فإن أهم غايات المقاومة من داخل فلسطين لا علاقة لها بهدف إزالة إسرائيل، ولا هزيمتها عسكرياً بالمعنى الحرفي للكلمة، إنما الإبقاء على حضور القضية الفلسطينية، وعدم نسيانها، وعدم منح إسرائيل شعوراً بأنها استطاعت أن تبتلع فلسطين وأهلها، ومثل هذه الغاية يمكن تحقيقها بالمقاومة الشعبية، وبالحد الأدنى من الفعل الذي نستطيع مواصلته كل الوقت، دون أن نضطر إلى دفع أثمان تفوق قدرتنا على التحمل.
لا تظلموا غزة، وامنحوها فرصة للبقاء، وابحثوا عن وسائل تتوافق مع حجم الهدف الذي تتفقون عليه للمقاومة.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo