أسباب الفشل

قوة الاستقرار في غزة: هروب من جوهر الأزمة إلى متاهة التفاصيل

تدمير المباني في غزة
تدمير المباني في غزة

أولاً: تمهيد لازم

تمثل فكرة نشر قوة استقرار دولية في قطاع غزة محوراً مركزياً في المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب على غزة، والتي أعلن في 7 نوفمبر 2025 أن تنفيذها بات وشيكاً. ورغم أن الفكرة تُطرح الآن في إطار “خطة سلام”، فإن جذورها تعود إلى مارس 2024 عندما بحث وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق يوآف غالانت مع واشنطن إمكانية تشكيل قوة متعددة الجنسيات (بمشاركة عربية) لإدارة القطاع وفرض النظام فيه.


لكن المبادرة واجهت آنذاك تحفظات عربية وأميركية، وظلت مؤجلة بسبب رفض إسرائيل لأي ارتباط بحل الدولتين. اليوم، تعود الفكرة مجدداً كجزء من البند الخامس عشر في خطة ترامب، مدعومةً بمسودة قرار أميركية أمام مجلس الأمن تهدف إلى منحها شرعية دولية، في وقت كشفت فيه مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية تولسي غابارد عن مشاركة 16 دولة و20 منظمة غير حكومية في قوة مدنية–عسكرية عاملة على الأرض.

ثانياً: الشكل القانوني والمهام المقترحة

تكشف مسودة القرار الأميركي المقدمة في 6 نوفمبر 2025 عن طبيعة القوة المقترحة وصلاحياتها الواسعة.

  • ستعمل القوة تحت قيادة موحدة يوافق عليهامجلس السلام في غزةالذي يرأسه ترامب، وليس تحت إشراف مجلس الأمن الدولي.
  • هذا الترتيب يجعلها قوة تنفيذية مستقلة لا تخضع لآليات الرقابة الأممية المعتادة.

تشمل مهامها الأساسية عشرة بنود رئيسية:

  1. تأمين الحدود مع إسرائيل ومصر.
  2. استقرار الوضع الأمني الداخلي.
  3. ضمان نزع السلاح الكامل.
  4. منع إعادة بناء القدرات العسكرية.
  5. نزع سلاح الفصائل الفلسطينية بشكل دائم.
  6. حماية المدنيين والممرات الإنسانية.
  7. تدريب الشرطة الفلسطينية الجديدة.
  8. التنسيق لضمان المساعدات الإنسانية.
  9. مراقبة وقف إطلاق النار.
  10. تنفيذ أي مهام إضافية يقرّها مجلس السلام.

مدة التفويض تمتد حتى نهاية عام 2027، من دون إشراف أممي مباشر، ما يعني عملياً وضع غزة تحت وصاية دولية لا تخضع للفصل السابع أو لضوابط ميثاق الأمم المتحدة.
ورغم تحفظ إسرائيل الأولي على منح الأمم المتحدة أي دور إشرافي، فإنها شاركت في صياغة المسودة وتواصل التأثير في شكلها النهائي.

 

ثالثاً: تباين مواقف في تل أبيب

يتجلى في إسرائيل انقسام واضح بين المستويين السياسي والبحثي حيال فكرة القوة الدولية.

  • على المستوى السياسي:
    • أعلن غادي آيزنكوت رفضه القاطع لوجود أي قوة دولية، خاصة تركية أو عربية، لأنها “تقيد حرية العمل العسكري الإسرائيلي”.
    • طالبت الوزيرة أوريت ستروك بعرض الخطة على الكابينيت، منتقدة غياب الشفافية حول تركيبة القوة وصلاحياتها.
    • أكد نتنياهو أن أي قوة ستدخل غزة “يجب أن تحظى بقبول إسرائيلي”، أي حق الفيتو الإسرائيلي الفعلي.
  • على المستوى البحثي:
    • معهد دراسات الأمن القومي (INSS) في جامعة تل أبيب يرى أن البيئة الإقليمية لا توفر حماساً خليجياً للانخراط العسكري في غزة، ويدعو إلى خطة إسرائيلية تدريجية لنزع السلاح على أربع مراحل.
    • معهد مسغاف للدراسات الاستراتيجية يشكك في إمكانية نجاح القوة، معتبراً افتراض تخلي حماس عن سلاحها “وهمياً”، محذراً من فجوة بين التفويض المحدود والقدرات الفلسطينية.
    • أما معهد ميتفيم للسياسات الإقليمية الأجنبية والأمنية فيراها “حلاً انتقالياً ضرورياً” شريطة أن تُمنح تفويضاً صريحاً على غرار كوسوفو وتيمور الشرقية وليس نموذج اليونيفيل الضعيف في لبنان.

 

رابعاً: المخاطر الرئيسية

تواجه الخطة مخاطر قانونية وسياسية وهيكلية تهدد فرص نجاحها:

  1. الغموض القانوني:
    • صياغة القرار تُعيد أخطاء القرار 242 لعام 1967، إذ تسمح التلاعبات اللغوية لإسرائيل بتفسيرات تخدم مصالحها.
    • عدم استناد القوة إلى الفصل السابع يعني غياب صلاحية “استخدام القوة الملزمة”، ما يُضعف قدرتها التنفيذية.
  2. التصادم الميداني المحتمل:
    • تكليف القوة بنزع سلاح الفصائل يضعها في مواجهة مباشرة مع الفصائل الفلسطينية، مما يحوّلها إلى طرف في الصراع بدلاً من وسيط للاستقرار.
  3. الامتيازات الإسرائيلية الخاصة:
    • ما تسرب من تفاهمات أميركية–إسرائيلية يمنح تل أبيب:
      • حق النقض على تشكيل القوة.
      • حق تنفيذ عمليات عسكرية داخل غزة بحجة “التهديدات”.
      • حق وقف الانسحاب من 53% من القطاع بدعوى “تدمير الأنفاق”.
    • هذه الامتيازات تُعيد إنتاج نموذج جنوب لبنان حيث تواصل إسرائيل العمليات رغم وجود قوة أممية.

خامساً: الرفض الفلسطيني والعربي المتوقع

يتقاطع الموقف الفلسطيني والعربي في رفض جوهر الخطة لأسباب ثلاثة رئيسية:

  1. تكريس الفصل الجغرافي والسياسي بين غزة والضفة الغربية، ما يُجهض فكرة الدولة الفلسطينية.
  2. فرض وصاية أجنبية تتناقض مع حق تقرير المصير الفلسطيني، مع مخاوف مصرية من وجود عسكري أجنبي على حدودها.
  3. تجاهل البُعد السياسي للصراع والاكتفاء بمعالجة إنسانية–اقتصادية سطحية، متجاهلة جوهر الاحتلال والحقوق الوطنية.

تحاول إسرائيل فرض نموذج “الضفة الغربية” على غزة، مع استبعاد السلطة الفلسطينية وإبقاء السيطرة الأمنية والمعابر بيدها، في حين تُسند الخدمات لجهات دولية ومحلية غير منتخبة.
وهذا يعني عملياً إقصاء الممثل الشرعي (منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية) وإضفاء شرعية شكلية على الوجود العسكري الإسرائيلي.

 

سادساً: السيناريوهات المحتملة

  1. الفشل المبكر :
    • رفض فلسطيني واسع، تردد عربي في المشاركة، وانقسامات إسرائيلية حول القيادة والصلاحيات، ما قد يُفشل المشروع قبل انطلاقه.
  2. التطبيق الجزئي المشوّه:
    • نشر قوة محدودة بلا تفويض حقيقي تفشل في نزع السلاح أو كبح الانتهاكات الإسرائيلية، فتتحول إلى شاهد عاجز كما حدث مع اليونيفيل.
  3. النجاح النسبي المشروط:
    • يتطلب تحولاً جذرياً في الموقفين الأميركي والإسرائيلي يشمل:
      • تفويضاً أممياً تحت الفصل السابع.
      • انسحاباً إسرائيلياً كاملاً وشفافاً.
      • إشراك السلطة الفلسطينية وربط غزة بالضفة.
      • أفقاً سياسياً واضحاً نحو حل الدولتين.
    • لكن المؤشرات الحالية تجعل هذا السيناريو بعيد المنال.

 

سابعاً: الخلاصة والتوصيات

تُظهر المعطيات أن خطة القوة الدولية في غزة تعاني من عيوب بنيوية جوهرية تجعلها أقرب إلى إدارة صراع لا حله. فهي تكرر نمط الغموض القانوني الذي مكّن إسرائيل سابقاً من التملص، وتحوّل الاحتلال إلى وصاية دولية بلا أفق سياسي، وتتجاهل الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وتمنح إسرائيل صلاحيات استثنائية تُفرغ التفويض من مضمونه.

الدروس المستخلصة:

  • تجاهل الحقوق السياسية للفلسطينيين لا يُلغيها بل يُعمّق الصراع.
  • تجاوز القانون الدولي لا يخلق شرعية دائمة.
  • التعامل مع إسرائيل كدولة فوق القانون يُهدد استقرار الإقليم بأسره.

التوصيات:

  1. ربط الاستقرار في غزة بحل سياسي شامل يضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
  2. إخضاع القوة لإشراف أممي حقيقي وفق الفصل السابع.
  3. إشراك السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير في إدارة القطاع وربطه بالضفة الغربية.
  4. ضمان انسحاب إسرائيلي كامل وشفاف دون امتيازات استثنائية.
  5. وضع جدول زمني واضح لانتقال السلطة من القوة الدولية إلى إدارة فلسطينية منتخبة.


إذا لم تُراجع الخطة جذرياً، فستتحول “قوة الاستقرار الدولية” إلى نسخة جديدة من تجربة اليونيفيلرمزاً للعجز الدولي أكثر من كونها أداة للسلام.
وغزة، التي أنهكتها الحروب، لا تحتاج إلى “وصاية جديدة”، ولا حلول أمنية بل إلى عدالة حقيقية تُعيد للشعب الفلسطيني حقه في الحياة والحرية.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo