حيتان غزة وحيتان الضفة وسردين الشعب!

سمك سردين
سمك سردين

جاءت على النفس رائحة السمك، فقررتُ أن أشتريه من الحسبة، فذهبتُ إلى هناك، وأخذتُ بالسؤال عن الأسماك فلم أجد منها إلا القليل جدًا، ولو كان الشخص خبيرًا في الأنواع والأشكال لعرف أنها أسماك بائته أو بقايا البقايا.

كثيرًا ما كنت أذهب إلى حسبة السمك ولا أجد فيها الأسماك، وإن كانت موجود تكون قليلة ومرتفعة الثمن بشكل كبير، قياسًا بأسواق أخرى في قطاع غزة، في تلك المرّة قررتُ أن آكل سمك بأي وسيلة كانت، فذهبتُ إلى سوق مخيم الشاطئ وهو بالمناسبة لا يبتعد عن حسبة السمك سوى بضع كيلوات قليلة، حيث السمك هناك متوفر بأعداد وأنواع مختلفة، فساعرت السمك الذي أعرفه، وأظن أنك الآن عرفته تمامًا! سمك السردين بالتأكيد - ففوجئت بثمن الكيلو حيث كان دولارين تقريبًا، أما في الحسبة فكان ثمنه خمسة دولارات، لا أعلم ما سبب غلاء السمك في الحسبة، وهي التي من المفترض أن تكون الأسماك فيها بأسعار الجُملة! لكنها أصبحت تعرض الأسماك للمشترى المستعجل، أو الغشيم من أمثالي، أو أصحاب الدراهم الكثيرة.

اقرأ أيضاً: "تهديد" الرئيس في حال استمرّ الاحتلال..هل مِن خطة تنفيذية؟

في رحلة السردين تلك، جالستُ صيادًا كبيرًا في العمر، فسألته عن سرِّ غلاء السمك في الحسبة، خاصة الكبير منه، وقلّته في آن معًا، فأخبرني أن بحر القطاع هو ممر عبور للسمك وليس استقرار، فلا يوجد به صخور أو شعب تسمح باستقرار السمك والتكاثر فيها، مما دفعهم لوضع هياكل للسيارات والثلاجات على بعد أميال في المياه كي تتحول بعد شهور لحواضن للسمك بعد أن تكتسي بالعشب البحري مما يتيح لهم صيده.  

أما عن الحسبة فقال أنها تحولت إلى محال تجارية تبيع السمك ولا تصيده، بل تصيد الزبائن، فمجرد أن يدخل الزبون الحسبة يعرف البائع مُراده وكم في جيبه ويقدر له الأسعار، فالذي ينزل من سيارة الجيب "يتكتك" ملابسه له تسعيرة خاصة، وتنظيف خاص، وربما يحوز على فنجان قهوة.

أما من يأتي ماشيًا فينظرون إلى صندله وهيأته، ويقدرون له سعر الكيلو، أما لو كانت سيدة في عجلةٍ من أمرها تريد أن تدرك الوقت لتعد طعام الغذاء، فيتم تدويخها بالتسعيرة حتى تأخذ ما لا تدري وتذهب مسرعة إلى المنزل.

أما باقي الناس فيأتون إلى هنا - سوق المخيم - ويشترون السردين، كل الشعب يأكل السردين لأن أغلبهم لا يعرف أسماء الأسماك كي يعرف طعمها وأنواعها! فغزة محسوبة أنها مدينة شاطئية لكنها لا تأخذ من الشاطئ إلا السلطعونات!

طالت جلستي مع العجوز مما أتاح لي مراقبة المشترين، فأغلب كانوا يمرون على بسطة العجوز ويسألونه عن أسماء وأنواع الأسماك المعروضة، فيخبرهم العجوز عن اسم كل نوع وفي النهاية يقول المشتري: "حطلك اثنين كيلو سريدا (سردين)" تكرر هذا الأمر أكثر من مرة حتى استدعى سؤالي للعجوز عن سبب ضحكته فقال :" من كثر ما حكيت الأنواع حاسس حالي رسام في معرض وبشرح عن لوحتي .. يا بنيّة الناس جاية تتعرف على أنواع السمك مش تشتري"

كان الأمر واضحًا جدًا، حتى أنك تستطيع أن تتعرف على المستوى الاجتماعي للسكان هنا من خلال مدى معرفتهم بأنواع الأسماك، حتى السردين الذي اكشفت أنه بعدّة أنواع، وليس نوع واحد كما كنت أعتقد سابقًا.

أما عن جواب السؤال حول شح الأسماك في الحسبة فقال لي العجوز أن السبب يكمن في تصدير أنواع الأسماك وخاصة الكبيرة منها إلى بعض الأسواق الخاصة بالضفة الغربية، فهناك سعر كيلو الأسماك الكبيرة يصل من عشرين إلى ثلاثين دولار، وطبعًا هذا مبلغ لا يتوفر يومًيا إلا مع حيتان الضفة الغربية.

قبل أيام أصدرت السلطات المسؤولة في غزة قرار بمنع تصدير الأسماك الشعبية، أي أسماك السردين، خاصة سمك "البزرة" وهو سمك سردين صغير جدًا لا يتجاوز حجمه مفتاح باب سيارة قائد فلسطيني صغير!

فكل القصة تدور حول حدود "السبعة وسردين" كما أطلق عليها الصديق حسن الداوودي، سواء سياسيًا أو غذائيًا، أما الأسماك الكبيرة، كما المصالح الكبيرة، يتم تقسيمها ما بين حيتان غزة، وحيتان رام الله، أما الشعب فله البزرة.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo