انتبه.. %41 من أطفال غزة ولدوا تحت الحصار!

أطفال غزة.
أطفال غزة.

تقول الدراسة الصادرة عن مركز "تصور فلسطين" 2021، أنه من بين 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة هناك 41% من الاطفال الذين تبلغ أعمارهم 14 سنة فأقل قد عاشوا حياتهم بأكملها تحت الحصار الإسرائيلي ويعيشون أنواعًا متعددة من الصدمات.

إحصائية مفجعة حقًا، لكن تفصيلها أكثر صدمة .. في جلسة ترفيهية لي في أحد المخيمات الصيفية هذا العام مع مجموعة من الأطفال قلتُ أن الكهرباء كانت تأتي على قطاع غزة قبل خمسة عشر عامًا24  ساعة متواصلة، وأننا لم نكن نعرف البطاريات الصغيرة، والأضواء المستوردة التي تُعرف باسم "اللدات" وهي عبارة عن إنارة بسيطة تعمل على البطاريات، وتسبب الصداع المزمن في الرأس بسبب خفوت نورها، وبينما أنا أتحدث رأيت الاستغراب بائن في عيون بعض الأطفال حتى تفجر الحديث من فم أحدهم قائًلا: "شكلك بتمزح يا أستاذ"

أعتقد أنني لم أقل نكتة كي يخاطبني الطفل بهذا الشكل، وربما أن حديثي يثير حقًا سخرية القارئ غير المطلع على حصار قطاع غزة، فليس من المنطقي في القرن الواحد والعشرين أن تقطع الكهرباء عن منطقة ما أكثر من عشرين ساعة في اليوم، هذه بحد ذاتها نكتة لا يمكن تصديقها!

وماذا لو أخبرتك أن هناك مئات الآلاف من الناس في غزة ممن ولدوا بعد عام 1967 وهو عام احتلال قطاع غزة من قبل إسرائيل - لم يشاهدوا طوال حياتهم قطارًا حقيقيًا يمشي على الأرض، فقبل هذا التاريخ كان القطار يأتي إلى غزة ويعبر منها باتجاه حيفا، ويأخذ أهلها في سفر طويل ناحية مصر ومنها إلى باقي العواصم العالمية.

تخصيص القطار هنا موضوع رمزي لما حرم منه الناس في غزة، في أول تجربة سفر شخصية لي عام 2009 أي كان عمري وقتها 27 سنة، وقبل ذلك التاريخ لم أغادر قطاع غزة، ولم أكن أعرف ماذا يعني الجَبل، أو القطار، أو الباخرة الكبيرة، أو حتى ألعاب الملاهي، أو المتاحف، كل هذه الأشياء كانت مجرد صور متحركة بالنسبة لي لا أعرف معناها على أرض الواقع، وبمجرد أن سافرت وركبت الطائرة وتعرفت على القطار ورأيت الجبال وتعرفت على المتاحف لأول مرّة بعد 27 عام من مولدي، تغيرت وجهة نظري عن العالم والحقيقة، العالم الذي كنت أظنه غزة فقط!

لم يكن الحصار المفروض على قطاع غزة حصارًا من النوع المألوف للبشر من سياج وبوابات، بل هو حصار مركب امتد كي يصل الوعي الفلسطيني، فماذا يعني أن نصف أطفال قطاع غزة ولدوا وعاشوا تحت الحصار؟! أي أنهم لم يشاهدوا لمبة البيت مضاءة لفترة تزيد عن الثماني ساعات في اليوم في أحسن حال، وأنهم لم يتصلوا بالعالم الخارجي، أو بأقرباء لهم خارج القطاع، ولم يدخلوا مُدن دولتهم المحتلة سوى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي بمجملها لا تُشبع الحواس الحسية في التعاطي مع الواقع والتعرف عليه والتأثير والتأثر به.

تخيل معي: هناك جيل كامل في قطاع غزة ينظر إلى الطائرة على أنها أداة قتل بشعة، فهي من تقصف منازلهم وتقتل أهلهم على مدار 15 عامًا، طيلة هذه المدة هو لا يعرف ما هي الطائرة، لم يركبها أو حتى يشاهدها بأم العين سوى وهي تلقي عليه القنابل، هو يدرس في الكتب أن الطائرات وسيلة سريعة للتنقل ومن خلالها يمكن له أن يزور بلاد أخرى ويتمتع بأسابيع سياحية جميلة، لكنه يرى غير ذلك على أرض الواقع، ولم يخض التجربة لأنه ببساطة محاصر جسديًا ومعرفيًا.

كذلك الحال مع السفينة فهو يشاهدها في عرض البحر تمارس فعل الحصار عليه، وفي أوقات كثيرة تطلق الرصاص والقنابل على الصيادين في البحر فتقتلهم، أي أنه لا يعرف أن للسفن مهمة أخرى جميلة!

إن هؤلاء الأطفال يعيشون الآن في متاهات نفسية واجتماعية وثقافية شديدة الخطورة، فهم جيل ولد وعاش حتى وصل عمره إلى 14 سنة وهو لم يتواصل مع جغرافياً خارجية بشكل طبيعي، ولم يمارس حياته بشكل صحي على صعيد التعليم والصحة الجسدية والنفسية وهو في أشد مراحل نموه الجسدي والنفسي خطورة، ففي هذا السن يتشكل وعي الفرد تجاه ما يحيط به من مؤثرات داخلية وخارجية، عوضًا على تكوينه الجسدي الذي تأثر  بفعل الحصار المفروض على القطاع على صعيد جودة الغذاء المقدم له، ومقدرة رب الأسرة على توفيره في واقع بطالة تعدى 65 بالمئة من سكان قطاع غزة.

لقد عمل الاحتلال على خلق جيل كامل منفصل عن عالم الطفولة الطبيعي، بالإضافة إلى تعرض هذا الجيل إلى أربعة حروب مدمرة وحروب مستمرة مع الضغط الأسري وحالة الفقر التي تعدّت نسبتها %85 (حسب المركز الفلسطيني للإحصاء لعام 2020  قبل العدوان الأخير الذي نتج عنه تسريح 3000 عامل نتيجة تدمير منشآتهم الاقتصادية) مما شكل لديه حالة من تشوه في الإدراك المعرفي والسلوكي الذي سوف ينعكس بالضرورة على حياته المستقبلية، سواء في مرحلة الدارسة أو الزواج وتكوين أسرة ستتأثر إلى حدٍ كبير بطبيعة نشأته الأولى.

إن استمرار هذا الوضع من الحصار المركب سوف يخلق جيل يصعب جدًا التفاهم معه حول أي قضايا تؤدي حل سلمي في المستقبل، وهذه جريمة مستقبلية أخرى تضاف إلى سجل الجرائم الإسرائيلية الممتدة على الشعب الفلسطيني.

المصدر : خاص زوايا
atyaf logo