مشان الله يا غزة بلاش!

اعتصام المقدسيين في القدس
اعتصام المقدسيين في القدس

بقوس روحك وهي تبكي في تشهدها الأخير، ألا ترى لغتي مشققة وحزني واضحاً؟ وأنا الوحيد تكاثرت ضدي السيول (كأنني غَرض الرماة) الشاعر أحمد ضيف الله العوضي

مشان الله يا غزة يلا!

شعارٌ، أو قُل نشيدًا يُشبه النَّشج يَصدر من حَناجر المقدسيين كُلّما ضاقت عليهم السبل، وأمعن المُحتل في عدوانه على المدينة المقدسة، وكل مرّة كانت غزة تُطلق الصواريخ على اسرائيل - أقول صواريخ هنا مجازًا فهي لا توقع الأذى المأمول في الاحتلال، بل ربما يكون في انتظارها كي يستقوي على غزة والقدس في آنٍ معًا، فيبدأ بقصف الأولى، واستنزاف دمها، وحين يسقط الدم تسكت كل الألسن من الرهبة، ويجلس الجميع ليعد القتلى ويُطلق "الهاشتاقات" فينهزم الجميع، وتُنفذ اسرائيل خطتها، فصاحب الخطة دومًا ينتصر، وصاحب الفزعة دومًا مهزوم!

كل المرّات التي انتصرت فيها القدس، كانت بسواعد شبابها، بدأ مما اصطلح عليها معركة البوابات، إلى معركة الحواجز الأخيرة، هذا لأن كل معركة تحتاج إلى أدواتها المختلفة، وكل هذا يحتاج قبل كل شيء إلى استراتيجية نضالية فلسطينية واضحة ومتفق عليها، وهذا للأسف غير متوفرـ لهذا ستذهب كل الجهود سُدى، ولن ينتصر الفلسطيني بالمعني الحقيقي، لأن قيادته الرسمية والفصائلية لا تعرف ماذا تُريد، فالرئيس محمود عباس مُنظِّر المقاومة الشعبية السلمية يتسائل في خطاب له قائًلا :" وينها المقاومة الشعبية السلمية الِّي لازم نعملها .. وينها؟!"

أما مُنظري العمل الكفاحي المسلح لم ينفذوا كلامهم على أرض الواقع منذ عام 2004 فقد توقف العمل الفصائلي المسلح في الضفة الغربية، ولم تعد تلك الفصائل تنفذ العمليات العسكرية كما كانت تفعل في السابق، لأنها تعلم - ربما - أن تكلفة العودة إلى العمليات العسكرية سوف تكون كبيرة، لأن تلك الفصائل أصبح لديها ما يمكن أن تخسره، وهو: السلطة والمال، ولأنهم – مؤمنين – فربما اعتقدوا أن الله قد كفاهم شرّ القتال!
 

مشان الله يا غزة يلا!

قال نزار قباني يومًا ما :"يا مجانين غزة ألف أهلًا بالمجانين إن هم حررونا.

إن عصر العقل السياسي ولي من زمان فعلمونا الجنونا" وهو من قال أيضًا في قصيدته هوامش على دفتر النكسة :"كلفنا ارتجالنا خمسين ألف خيمةٍ جديدة"


مشان الله يا غزة يلا!

ربما تدمع عين أهل غزة من هذا الهتاف المقدسي، وتغلي في عروقهم دماء الشهامة، فهم والله أهلها، وقد جربهم العدو قبل الصديق، لكن في الأمر كلام كثير، فالفزعة لا تنفع في مكان تلزم فيه الاستراتيجية، وقد نقع في شَرك العدو من حيث ندري هذه المرّة، فما أشبه القدس وغزة بصبي يشاهد أخاه يُضرب من عشرات البلطجيّة، فيقرر تحت نداء الشهامة والشعور بالظلم أن يحمل عصًا ضعيفة ليدافع بها عن أخيه، فيلتف البلطجية عليه ويضربوه هو الآخر، فأمر الدفاع هنا حتمي من ناحية العاطفة، لكنه مَحل نظرٍ من ناحية العقل، وربما يقول قائل: "وهل يلزم عقلًا لا قدس فيه؟! فيرد عليه آخر: "وهل يستقيم جسد لا غزة به؟!

مُعادلة صعبة، لا نريد أن نصل إليها، ولا حتى طرحها بشكلٍ قد يستفز مشاعر الناس في ظروف تتعرض فيها مدينة القدس إلى أشرس هجمة لتهويدها من خلال تهجير أهالي حي الشيخ جراح الذي أنشئ عام 1956 بموجب اتفاق مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" والحكومة الأردنية بصفتها الإدارية للضفة الغربية (1951- 1967) والتي تم بموجبها تسكين 28 أسرة فلسطينية هُجرِّت من مساكنها جراء نكبة عام 1948 وهو - لو حصل - سوف يكون هجرة ثانية لأهالي الحي، وبداية لتفريغ مدينة القدس من سكانها الفلسطينيين؛ لأن حي الشيخ جرّاح بمكانه الحالي، يَمنع إحاطة إسرائيل بالمدينة من جميع الجهات، لأن الحي يعتبر بمثابة بوابة القدس ناحية مدن الضفة الغربية، وهو ما تعمل عليه دولة الاحتلال منذ عام 1972 عقب الاحتلال الإسرائيلي للمدينة عام 1967، فالقضية هنا ليست قصة تهديد وتصعيد ينتهي بعملٍ عسكري انفعالي، بل يجب أن تكون بداية لنضال حقوقي فلسطيني كامل وواسع لا ينتهي إلى بتثبيت الحق الفلسطيني في مدينة القدس وصولًا إلى إنهاء الاحتلال الاسرائيلي دون ما يسمى "استراحة مقاتل" فلا وقت لأحدٍ كي يستريح، ويكفي ما حصل من تقاعس واهدار للوقت والجهد والدم، ذلك الوقت الذي استغله الاحتلال أفضل استغلال فسرَّع في عملية الاستيطان ومصادرة الأراضي، وفرض الأمر الواقع على الأرض والبشر، بينما نحن نغرق في تفاصيل الحياة اليومية، ومشاحنات الانقسام البغيض.

ربما تكون هذه فرصتنا الوحيدة والأخيرة في استنهاض الهمّة النضالية للشعب الفلسطيني، وربما ما تبقى من روح عربيّة، فالقدس هي نقطة الالتقاء التي يجتمع عليها كل المختلفين في الساحة السياسية الفلسطينية، خاصة وهي الخارجة من انتصار معنوي بالتغلب على قرارات الاحتلال بالتضييق على سكانها في قضية الحواجز، فالأمر لا يتطلب أكثر من نفوسٍ شريفة تعي مخاطر الأزمة ومآلاتها، لتتحلل من كل رواسب الخلافات وتسارع الوقت من أجل انقاذ ما تبقى من وطن، ومن إيمان لدى المواطن الفلسطيني بجدوى مقاومة المحتل من خلال إطلاق العنان لفعلٍ جماهيري مُستمر في عموم الأراضي الفلسطينية، خاصة في القدس لأنها على تماس مباشر مع الجندي المُحتل، والضفة الغربية بسبب اشتباكها اليومي مع الاحتلال، مع تحييد كامل وتام لسلاح الصواريخ المتواضع الموجود لدى الفصائل في قطاع غزة، لأن المعركة هنا ليس المقصود منها تصعيد يمتد لأيام يمتص الغضب ويستنزف الدم، لتسارع الوساطات لعقد هدنة من أجل وقف نزفه وينتهي الأمر بخسائر فادحة.

إذن فنحن أمام اختبار أخير لأهلية كل القيادات الفلسطينية وقدرتها الحقيقية في قيادة الفعل الشعبي المقاوم، وليس أبلغ من قول المتنبي حينما قال :"الرأي قبل شجاعة الشجعان، هو أوّل، وهي المَحل الثاني، فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرَّةٍ بلغت من العلياء كلَّ مكان".

المصدر : خاص زوايا
atyaf logo