غزة… حين تصبح “وجهة سياحية”

غزة… حين تصبح “وجهة سياحية”
غزة… حين تصبح “وجهة سياحية”

في عالمٍ لم يتعلّم شيئًا من تاريخه جاءت تلك الطائرة التي أقلعت من مطار رامون الإسرائيلي قرب إيلات حاملةً أكثر من 150 فلسطينيًا من قطاع غزة كأنها رحلة سياحية جماعية إلى مستقبل بلا عنوان. الرحلة التي مرّت عبر نيروبي قبل أن تهبط في جوهانسبرغ لم تكن مجرد عملية إجلاء إنساني بل كانت، بكل برود أول بروفة علنية لمرحلة ديموغرافية جديدة.
القصة ليست في الطائرة نفسها بل في الأسئلة التي جاءت معها:
من أين خرجت؟
كيف خرجت؟
ولماذا خرجت الآن؟
ومن المستفيد من خروجها؟
وعندما تتضح الصورة يتبيّن أن الطائرة لم تنطلق من غزة المدمّرة حيث لا مطار ولا مدرج ولا برج مراقبة بل خرجت من رامون مطار إسرائيلي كامل بترتيب لوجستي دقيق عبر جهة تُعنى عادة بالرحلات السياحية لا الإجلاءات الإنسانية. وهذا وحده يكفي لنفهم أن الأمر لم يكن “صدفة خيرية” ولا “مبادرة تضامن عالمي” بل نافذة صغيرة فُتحت لاختبار العالم: هل سيعترض إذا خرج الفلسطيني عبر بوابة “السياحة”؟ هل سيلاحظ أحد أن الفلسطيني الذي خرج لا حق له في اللجوء ولا الإقامة ولا الحماية؟ هل سينتبه الجمهور إلى أن الطائرة ليست ملاذًا بل تجربة صامتة لهندسة مستقبل غزة؟
وهم اللجوء… وواقع السياحة
لكن القصة تصبح أكثر قتامة حين ندخل في التفاصيل الدقيقة التي تسرّبت من داخل القطاع. فوفق مصادر محلية شبه مؤكدة فإن بعض العائلات التي صعدت إلى تلك الطائرة تخلّت عن ممتلكاتها وحقوقها داخل غزة قبل المغادرة ليس لأنها تريد البيع أو التغيير بل لأن بعض الوسطاء روّجوا لها وعدًا لامعًا: “جنوب أفريقيا ستمنحكم حق اللجوء السياسي أو الإنساني.”
ويا للمفارقة… الدولة التي وقفت بقوة ضد الإبادة في محكمة العدل الدولية استقبلتهم كسياح فقط. لا حماية ولا إقامة ولا لجوء ولا حتى وعد بالبقاء. وفي لحظة واحدة أصبح الفلسطيني الذي هرب من الرماد إلى القارة السمراء معلّقًا في الهواء: لا يستطيع العودة ولا يُسمح له أن يبقى ولا يعرف إن كان قد هُجّر أم خُدع أم جرى استخدامه كرقم تجريبي في معادلة أكبر منه.
الهندسة الديموغرافية الناعمة: عندما يصبح الخنق بديلاً عن التهجير القسري
من يظن أن المرحلة الثانية من خطة ترامب هي “إعادة إعمار” أو “ترتيب سياسي” يعيش في الوهم. المرحلة الثانية كما تتجلّى ملامحها الآن، تعتمد على ضغط نفسي ساحق وتطويع اجتماعي طويل الأمد وجعل الحياة اليومية لا تُطاق وتفريغ الناس من الداخل قبل تفريغ الأرض من السكان.
لا يحتاج المشروع إلى جرافات، ولا يحتاج إلى قرارات رسمية. كل ما يحتاجه هو طائرة كل أسبوعين تأخذ بعض اليائسين وتترك الباقي يتدربون على فكرة “الخروج”. بهذه الطريقة يصبح التهجير عملية “ناعمة” لا تُسجّل كجريمة ولا تُعدّ حربًا ولا يراقبها أحد.
ازدواجية العالم… الفصل الأخير من الفشل الأخلاقي
العالم الذي كان يصرخ لإيقاف القتل اليوم صامت أمام إعادة تشكيل غزة. قبل أشهر كان “الاعتراف بالدولة الفلسطينية” على جدول كل دولة. اليوم؟ اختفى فجأة كما يختفي الشاهد الوحيد على الجريمة. تبيّن للعالم أن الإبادة لم تنتهِ عندما توقّفت القنابل بل تغيّرت أدواتها: من قتل مباشر إلى هندسة سكانية ومن قصف البيوت إلى قصف الحقوق، ومن تجميد الإعمار إلى فتح مطار رامون بديلًا عن فتح المستقبل.
وما دامت جنوب أفريقيا هي الدولة الوحيدة التي وافقت على استقبال الفلسطينيين كسياح، فسرعان ما ستكتشف، كما اكتشفت ماليزيا ودول أخرى، أنها إن قبلت أن تكون بوابة فإنها تصبح دون أن تدري شريكًا في مرحلة التهجير الناعم. وجنوب أفريقيا ليست دولة ساذجة، فهي التي حاكمت الاحتلال في لاهاي، وستغلق هذا الباب قريبًا لأنها تعرف تمامًا أن ما يجري ليس “سفرًا”، بل إعادة توزيع بشرية بقفازات ناعمة.
زاوية حادّة. تسئل …
الغريب في كل المشهد أنّ الجهة التي تعرف بدقّة متى يدخل الهواء إلى غزة ومتى يُقطع، ومتى تمرّ علبة السردين عبر المعبر ومتى تُمنع، لم تنتبه—سهوًا أو عمدًا—إلى أنّ طائرة سياحية كاملة مرّت فوق رؤوس الناس وهي تحمل نصف حيّ من العائلات إلى جنوب أفريقيا. كأنّ السياحة من غزة فكرة لا تصل إلى الرادار، بينما كل شيء آخر يصل. وفي الوقت نفسه، يظهر نتنياهو ليعيد ويكرّر أنّه لا يعترف بدولة فلسطينية، وكأنه يرسل رسالة صغيرة لمن يدير القطاع: ابقوا كما أنتم… فوجودكم أهم من دولة، والكيان أهم من الكيان

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo