تقدير موقف استراتيجي

من الطوفان إلى الاستسلام: تشريح استراتيجية الوهم

حرب الابادة
حرب الابادة

افتراضات خاطئة

في 7 أكتوبر 2023، أطلقت حركة حماس "طوفان الأقصى"، وهي عملية عسكرية بُنيت على افتراضات استراتيجية طموحة لكنها انفصلت عن الواقع، مما أدى إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة. هذا التحليل يفكك الحسابات الخاطئة، وانهيار الرهانات الإقليمية، والتحول الدراماتيكي في موقف الحركة من التحرير إلى البقاء.

المحور الأول: قرار المنفرد

  1. القرار خارج التنسيق الإقليمي

الخطيئة الأصلية في استراتيجية حماس كانت قرار يحيى السنوار ومحمد الضيف إطلاق العملية دون تنسيق مع "أطراف المحور" (إيران، حزب الله، الحوثيين، الفصائل العراقية والسورية).

منطق السنوار الخاطئ:

  • "إيران لديها اعتبارات إقليمية قد تمنعها من الموافقة"
  • "الفلسطينيون أصحاب القضية عليهم المبادرة"
  • "باقي الأطراف ستلحق بنا عندما ترى أداءنا القتالي"
  • "إسرائيل ضعيفة وهشة أمام هجوم مفاجئ"

النتيجة الفعلية:

  • عزلة استراتيجية كاملة: لم تدخل إيران الحرب مباشرة
  • حزب الله اختار "المؤازرة والمشاغلة" وليس الحرب الشاملة
  • تدمير حزب الله نفسه: اغتيال نصر الله، صفي الدين، وتدمير ترسانته
  • غزة وحيدة تواجه آلة الحرب الإسرائيلية
  1. سوء تقدير رد الفعل الإسرائيلي

الافتراض الخاطئ: "إسرائيل لن تجرؤ على قصف أهداف مدنية تجنبًا لسيناريو الظلام الدامس بضربات حزب الله"

الواقع:

  • إسرائيل شنت حرب إبادة منهجية على غزة
  • 70.000 ضحية
  • تدمير 90% من البنية التحتية
  • محاولة تهجير جماعي
  • حزب الله فشل في تنفيذ تهديداته الرادعة

التقييم: السنوار قامر بشعب كامل بناءً على افتراضات لم يختبرها ميدانيًا، وظن أن الردع المتبادل سينقذه، لكنه اكتشف أن إسرائيل مستعدة لتحمل الخسائر مقابل تحقيق أهداف استراتيجية.

المحور الثاني: انهيار الرهانات

1- الرهان الأول: حزب الله (فشل ذريع)

الوعد:

  • صواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة
  • شلّ 12 محطة كهرباء ومياه
  • إغلاق مطار بن جوريون
  • استهداف الكنيست والحكومة

الواقع:

  • اختار نصر الله "المؤازرة والمشاغلة" وليس الحرب الشاملة
  • إسرائيل قلبت المعادلة باغتيالات استراتيجية
  • تدمير جزء كبير من الصواريخ الدقيقة قبل استخدامها
  • الحزب أصبح ضحية بدلًا من رادع

السبب: حزب الله كان يحمي نفسه ومصالح إيران الإقليمية، ولم يكن مستعدًا للتضحية بنفسه من أجل غزة.

  1. الرهان الثاني: إيران (رفض المشاركة)

موقف طهران الصريح:

  • "القرار جاء في وقت مبكر"
  • "لم نكن جاهزين لحرب شاملة تشارك فيها دول الغرب وأمريكا"
  • "القرار كان يجب أن يُتخذ بموافقة أطراف المحور"

التفسير:

  • إيران لم تكن مستعدة للمخاطرة بأمنها القومي من أجل حماس
  • كانت تفضل التصعيد المحسوب عبر الوكلاء
  • المصالح الإيرانية الإقليمية (الاتفاق النووي، العقوبات، التطبيع) أهم من غزة
  1. الرهان الثالث: فلسطينيو الداخل والضفة (انهار سريعًا)

الافتراض:5 ملايين فلسطيني في الضفة والقدس وإسرائيل سينضمون للمواجهة كما حدث عام 2021"

الواقع:

  • قمع أمني شديد منع أي انتفاضة منظمة
  • عزل الضفة الغربية عن غزة
  • عمليات فردية محدودة لم تُشكل ضغطًا استراتيجيًا
  • اعتقالات واسعة في إسرائيل للمواطنين الفلسطينيين

4- الرهان الرابع: الضغط الشعبي والدولي (محدود الأثر)

الافتراض: "الضغوط الشعبية والدولية ستوقف الحرب"

الواقع:

  • مظاهرات عالمية ضخمة لكن دون تأثير سياسي حاسم
  • الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل لم يتزعزع
  • الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن
  • تواطؤ أو صمت عربي رسمي

 

المحور الثالث: من حرب التحرير إلى الدفاع التكتيكي

الخطة الأصلية (قبل 7 أكتوبر)

الهدف الكبير: "اجتياح المدن الإسرائيلية الرئيسية واشتراط الانسحاب منها بـ:

  • انسحاب إسرائيلي كامل من الضفة الغربية والقدس
  • إقامة دولة فلسطينية مستقلة"

التقييم: خطة خيالية وانفصامية عن موازين القوى الحقيقية، بُنيت على:

  • مبالغة في قدرات المحور
  • تقليل من القدرات الإسرائيلية
  • افتراض تضامن إقليمي غير موجود

المقاربة الجديدة (بعد 16 شهرًا من الدمار)

التحول الدراماتيكي:

من          إلى
اجتياح المدن الإسرائيلية                 البقاء على قيد الحياة             
فرض شروط استراتيجية  قبول اتفاق يوقف الحرب
قيادة المحور الإقليمي    التفاوض منفردًا
تحرير الضفة والقدس  مجرد إعادة إعمار غزة

                                                          

المرونة الجديدة تشمل:

  1. ملف المحتجزين: "استعداد لمرونة كبيرة" (بعد أن كانوا ورقة ضغط رئيسية)
  2. ملف الحكم: قبول ابتعاد الحركة عن السلطة
  3. ملف السلاح: "استعداد لتوافق وطني" = نزع السلاح بصيغة مقبولة
  4. دور السلطة الفلسطينية: قبول عودتها (بعد رفض طويل)

ما ترفضه حماس فقط:

  • "الاستسلام الكامل والراية البيضاء"
  • لكنها عمليًا تقبل كل مطالب إسرائيل الأساسية بصيغة تحفظ ماء الوجه

المحور الرابع: دور مصر والسلطة الفلسطينية - من المهمش إلى المركزي

تحول استراتيجي في الحسابات

قبل 7 أكتوبر:

  • حماس تتجاهل السلطة الفلسطينية
  • الاعتماد على "المحور الإيراني"
  • مصر وسيط هامشي

بعد الكارثة:

  • السلطة الفلسطينية "طرف مركزي" في الحكم والأمن
  • مصر صاحبة المبادرة الوحيدة القابلة للحياة
  • حماس تطالب بعودة السلطة (كانت تحاربها سابقًا)

المبادرة المصرية الجديدة:

  • نزع سلاح حماس
  • إدارة تكنوقراط
  • عودة السلطة الفلسطينية

التقييم: حماس اكتشفت متأخرًا أن الجغرافيا أهم من الأيديولوجيا، ومصر أكثر فائدة من طهران.

المحور الخامس: خطة ترامب - الخشبة الأخيرة

مكونات الخطة

  1. إطلاق سراح جميع المحتجزين
  2. ابتعاد حماس عن الحكم
  3. تجريد القطاع من السلاح
  4. الانسحاب الإسرائيلي (بدون ضمانات واضحة)
  5. قوة دولية (غير محددة المعالم)

لماذا قد تقبل حماس؟

ليس لأنها مقتنعة، بل لأنها:

  1. نفدت خياراتها العسكرية
  2. انهارت رهاناتها الإقليمية
  3. الشعب في غزة يعاني كارثة إنسانية
  4. قيادتها مطاردة ومهددة بالاغتيال
  5. بقاء الحركة ذاته على المحك

المخاطر على حماس

  • نزع السلاح = نهاية المشروع العسكري
  • لا ضمانات لسلامة القادة
  • إسرائيل قد لا تنسحب فعليًا
  • السلطة الفلسطينية ستلاحقهم قضائيًا
  • فقدان الشرعية الشعبية (خذلتم غزة)

المحور السادس: الدروس المستفادة والتقييم النهائي

  1. كارثة التخطيط الاستراتيجي

أخطاء قاتلة:

  • المبالغة في القدرات الذاتية
  • التقليل من قدرات العدو
  • الاعتماد على وعود غير ملزمة
  • القرار المنفرد في قضية مصيرية
  • عدم وضع خطة للخروج من التصعيد

2- ثمن الانفصال عن الواقع

النتائج الكارثية:

  • 80.000 ض  ضحية (معظمهم مدنيون)
  • تدمير شبه كامل لغزة
  • 2.3 مليون نسمة في أزمة إنسانية
  • انهيار البنية التحتية
  • جيل كامل مشرد ومصاب بالصدمة

3- وهم "المحور الإيراني"

الحقيقة القاسية:

  • كل طرف يحمي مصالحه أولاً
  • لا يوجد تضامن استراتيجي حقيقي
  • الوكلاء أدوات وليسوا شركاء
  • إيران تقاتل حتى آخر عربي

 

الخلاصة: من الوهم إلى الواقع المرير

المعادلة قبل 7 أكتوبر (وهم)

"هجوم مفاجئ + دعم المحور + انتفاضة شعبية = تحرير فلسطين"

المعادلة بعد 24 شهرًا (واقع)

"قرار منفرد + وعود فارغة + رد إسرائيلي وحشي = كارثة إنسانية + استسلام مُقنّع"

التوصيات الاستراتيجية

للحركات الفلسطينية:

  1. عدم الرهان على وعود إقليمية غير مدعومة بالتزامات مكتوبة
  2. التنسيق الوطني الفلسطيني أولى من المحاور الأيديولوجية
  3. حماية المدنيين يجب أن تكون الأولوية القصوى
  4. امتلاك خطة للتصعيد وخطة للخروج منه

للوسطاء الإقليميين:

  1. لا مزيد من الوعود الكاذبة للفصائل الفلسطينية
  2. الصدق في تحديد حدود الدعم المتاح فعليًا
  3. الضغط على إسرائيل مهم لكن يجب أن يكون واقعيًا

للمجتمع الدولي:

  1. آليات إلزامية لوقف الحروب وليس مجرد إدانات
  2. محاسبة جرائم الحرب من جميع الأطراف
  3. حل سياسي شامل وليس هدنات مؤقتة

الكلمة الأخيرة

عملية "طوفان الأقصى" ستُدرس في المستقبل كـنموذج كلاسيكي لكارثة التخطيط الاستراتيجي، حيث:

  • الطموح تجاوز القدرة
  • الأيديولوجيا طغت على الواقعية
  • الوعود الكاذبة حلّت محل التقييم الموضوعي
  • شعب كامل دفع ثمن مغامرة قيادته

اليوم، حماس تتسول اتفاقًا كانت ترفضه قبل عام، وغزة تدفع ثمن قرار لم تُستشر فيه.

السؤال الأخير: هل كان يستحق "طوفان الأقصى" هذا الثمن الفادح؟ الإجابة في أنقاض غزة وأشلاء أطفالها.

المصدر: زوايا

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo