سلسلة مسائلة (1)

بعد الطوفان الدامي.. المراجعة الشاملة ضرورة كبرى

سلسلة مسائلة
سلسلة مسائلة

بعد مرور عامين على عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب دموية على قطاع غزة، تبرز الحاجة الملحة لمراجعة نقدية موضوعية للخيارات الاستراتيجية التي اتخذتها قيادة حركة حماس. نستعرض أبرز أوجه الانتقاد المطروحة، والتي لا تنال من مشروعية المقاومة بحد ذاتها، بل تتناول الخيارات السياسية والعسكرية المحددة وعواقبها على الشعب الفلسطيني.

الإشكالية المزمنة: غياب النقد

تواجه الحركة الوطنية الفلسطينية، على مدى ستة عقود من النضال، معضلة جوهرية تتمثل في غياب ثقافة المراجعة النقدية الجادة. فرغم التجارب المتعددة والتضحيات الجسام والبطولات المسجلة، لم تشهد هذه الحركة مراجعات منهجية لخياراتها السياسية والكفاحية، سواء في الأردن أو لبنان أو الأرض المحتلة.

الخلط بين الخيارات

ينبغي التمييز بوضوح بين أمرين: المقاومة كحق مشروع وردة فعل إنسانية طبيعية لشعب يواجه الاحتلال والظلم، وبين الخيارات الاستراتيجية المحددة التي تتخذها قيادة سياسية معينة. النقد الموجه لا يستهدف حق المقاومة، بل يتناول طريقة إدارتها وتوقيتها وأهدافها المعلنة.

خيار الحرب المعتمد

اتبعت قيادة حماس في طوفان الأقصى نهجاً يقوم على مواجهة جيش نظامي بجيش آخر، وصاروخ بصاروخ، وفق مفهوم "الضربة القاضية". هذا النهج يتناقض مع مفهوم حرب الشعب طويلة الأمد أو حرب العصابات التي تعتمد على الاستنزاف التدريجي للعدو.

التقدير الخاطئ

أظهرت الأحداث أن القيادة ذهبت إلى هذه المواجهة دون تبصر كافٍ بالعواقب، مستندة إلى:

  • المبالغة في تقدير القدرات الذاتية
  • قصور في فهم موازين القوى الحقيقية
  • تجاهل المعطيات العربية والدولية الراهنة
  • رؤية واهمة مبنية على أوهام بأن إسرائيل "أوهن من خيوط العنكبوت"
  • المراهنة على "وحدة الساحات" وتدخل محور المقاومة

المسافة بين الأهداف المعلنة والواقع

في بيانه الافتتاحي للعملية، حدد محمد الضيف أهدافاً طموحة شملت:

  • طرد الاحتلال من الضفة الغربية
  • التخلص من الاستيطان
  • رفع الحصار عن قطاع غزة
  • وقف الانتهاكات في القدس والمسجد الأقصى
  • تبييض السجون
  • وقف المجازر وهدم البيوت

النتائج الخطيرة

بعد عامين من الحرب، تبين أن هذه الأهداف لم تكن واقعية، بل جاءت النتائج معاكسة تماماً:

في الضفة الغربية:

  • تغول استيطاني غير مسبوق
  • تحول المستوطنين إلى ميليشيات عسكرية منظمة
  • تكريس الانتهاكات في القدس

في قطاع غزة:

  • تدمير شبه كامل للبنية التحتية
  • ربع مليون ضحية بين قتلى وجرحى ومعتقلين ومفقودين
  • مليونا نازح يفتقدون للمأوى والموارد الأساسية
  • تحول القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش

الجهل بقوة العدو

كشفت الحرب عن قصور خطير في تقدير التفوق الإسرائيلي متعدد الأبعاد:

  • القدرة النارية والتدميرية الهائلة
  • التفوق الاستخباري والتكنولوجي
  • كفاءة إدارة الموارد والعمليات
  • الدعم الأمريكي اللامحدود واللامشروط

كسر محور المقاومة

بدلاً من تحقيق "وحدة الساحات"، شهدت المنطقة توسعاً إسرائيلياً استراتيجياً:

  • توسع العمليات إلى لبنان وسوريا وإيران
  • هزيمة سريعة ومفاجئة لمحور "المقاومة والممانعة"
  • تعزيز الهيمنة الإسرائيلية من النهر إلى البحر

معظلة خطاب "الانتصار"

يطرح الحديث عن "الانتصار" إشكاليات عميقة:

  • تحميل حماس مسؤولية هزيمة إسرائيل يفوق قدراتها الفعلية
  • اعتبار عدم الهزيمة انتصاراً يذكر بخطاب الأنظمة العربية بعد 1967
  • الخلط بين بقاء فصيل سياسي ومصير الشعب الفلسطيني

الاعتراف بالواقع

إدراك واقع الهزيمة ليس عيباً، بل هو شرط أساسي للمصالحة مع الذات والنهوض مجدداً بناءً على الدروس المستفادة. الانفصام عن الواقع لا يخدم القضية الفلسطينية.

ترامب في خدمة نتنياهو

وافقت قيادة حماس على اتفاق يتضمن:

  • تبييض صفحة نتنياهو عربياً ودولياً
  • تجاهل جرائم حرب الإبادة
  • فرض وصاية على غزة
  • غياب أي بعد فلسطيني حقيقي في اليوم التالي

الضحية الحقيقية

الشعب الفلسطيني هو من دفع الثمن الباهظ، وليس القيادات السياسية. لذا فإن مساءلة هذه القيادات ليس "جلداً للضحية"، بل واجب وطني لصالح الشعب وحركته الوطنية.

المقاومة المطلوبة

يجب إدراك أن المقاومة الفعالة تتطلب:

  • أن تكون مقاومة شعب، لا فصائل منعزلة
  • توفر موازين قوى مناسبة
  • معطيات عربية ودولية داعمة
  • القدرة على الاستثمار السياسي للإنجازات الميدانية
  • استنزاف العدو لا استنزاف الشعب
  • توحيد الشعب لا تقسيمه

الخلاصة: لا قيمة لمقاومة مسلحة تؤدي إلى زعزعة وجود الشعب في أرضه، أو تقسمه، أو تستنزف طاقاته دون مكاسب سياسية موازية.

الأهداف الممكنة

يمكن الحديث عن نجاح نسبي إذا تحقق:

  • الحفاظ على سلاح المقاومة كأداة للتحرر لا للسيطرة
  • بقاء حماس في المشهد الفلسطيني
  • منع احتلال إسرائيلي دائم لأجزاء من غزة
  • إفشال خطط التهجير القسري

الأولويات

بعيداً عن الشعارات والأوهام، يتمثل الهدف الأساسي الآن في:

  • بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه بأمان
  • تمكينه من الصمود
  • توفير أسباب الحياة الكريمة
  • إعادة الإعمار والتأهيل

المراجعة الشاملة

بعد توقف الحرب، تبرز الحاجة الماسة لمراجعة نقدية شاملة وصريحة، لا بدافع الانتقام أو التشفي، بل من أجل:

  • طرح الأسئلة الصحيحة لصالح القضية الفلسطينية
  • تطوير رؤى سياسية جامعة
  • بناء استراتيجيات كفاحية تحقق إنجازات بدلاً من تبديدها
  • الاستفادة من الدروس المؤلمة
  • تجنب تكرار الأخطاء الفادحة

المراجعة النقدية ليست خيانة، بل واجب وطني، والاعتراف بالهزيمة ليس ضعفاً، بل شجاعة، والتعلم من الأخطاء ليس عاراً، بل حكمة. فالشعب الفلسطيني يستحق قيادة تتعلم من تجاربها وتضع مصلحته فوق كل اعتبار.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo