تقدير موقف: الاحتلال يُهندس التجويع كسلاح حرب في غزة

مواطنون يصطفون على طابور التكية في غزة
مواطنون يصطفون على طابور التكية في غزة

يشهد قطاع غزة منذ ما يقارب العامين أزمة إنسانية معقدة ومتعددة الأبعاد، حيث تجاوز الصراع حدود العمليات العسكرية التقليدية ليشمل استخدام التجويع كسلاح حرب منهجي. هذا التقرير يقدم تحليلاً شاملاً للوضع الإنساني في غزة مع التركيز على الاستراتيجيات المستخدمة في إدارة المساعدات الإنسانية وتأثيرها على السكان المدنيين.

الأبعاد الإنسانية للأزمة

يعيش سكان قطاع غزة، البالغ عددهم حوالي 2.3 مليون نسمة، في ظروف إنسانية بالغة الصعوبة تتسم بما يلي:

الضحايا المباشرون للتجويع: سجلت الإحصائيات الرسمية وفاة 440 شخصاً بسبب المجاعة وسوء التغذية، منهم 147 طفلاً، مما يعكس الطبيعة المأساوية للوضع وتأثيره الخاص على الفئات الأكثر ضعفاً.

الإعلان الأممي للمجاعة: في أغسطس 2024، أعلنت الأمم المتحدة رسمياً تفشي المجاعة على نطاق واسع في غزة، خاصة في المحافظة الشمالية، مما يضع الوضع في إطار الكوارث الإنسانية الدولية التي تتطلب تدخلاً عاجلاً.

المراحل الثلاث للتجويع المنهجي

تم تحديد ثلاث مراحل متميزة في استراتيجية التجويع:

المرحلة الأولى (يناير - مايو 2024):

  • استهدفت مدينة غزة وشمالها (380 ألف نسمة)
  • أدت إلى اضطرار السكان لتناول طعام الحيوانات
  • انقطاع كامل للمواد الغذائية الأساسية

المرحلة الثانية:

  • شملت وسط وجنوب القطاع (1.9 مليون نسمة)
  • كانت قصيرة المدى نسبياً
  • تم السماح بدخول الدقيق تدريجياً

المرحلة الثالثة (مايو 2024 - الحاضر):

  • تشمل كامل القطاع
  • تتسم بالشدة المتغيرة حسب الضغوط الدولية
  • مستمرة حتى الآن مع تفاوت في الحدة

آليات الهندسة الإنسانية

سياسة الإدخال المحكوم: تتم السيطرة على دخول المساعدات بطريقة تحقق توازناً دقيقاً بين تجنب الانتقادات الدولية والحفاظ على الضغط على السكان المدنيين. هذا يشمل:

  • إدخال كميات محدودة من المساعدات في فترات الضغط الدولي
  • منع وصول المساعدات إلى المخازن المؤسسية
  • إجبار المؤسسات على إيقاف الشاحنات في الشوارع العامة
  • استغلال الفوضى الأمنية: تم خلق بيئة من عدم الاستقرار تسمح بنهب المساعدات من خلال:
  • قصف محاولات تأمين المساعدات بحجة منع وصولها لحماس
  • السماح لعصابات اللصوص بالسيطرة على التوزيع
  • خلق سوق سوداء تجعل المساعدات بعيدة عن متناول الفقراء

التأثير الإنساني

الفئات الأكثر تضرراً

الأطفال: يشكلون النسبة الأعلى من ضحايا سوء التغذية، حيث تم تسجيل 179 حالة وفاة بين الأطفال (147 + 32 منذ إعلان المجاعة). نقص حليب الأطفال والمكملات الغذائية يفاقم الوضع.

النساء الحوامل والمرضعات: يواجهن صعوبات خاصة في الحصول على التغذية المناسبة، مما يؤثر على صحتهن وصحة أطفالهن.

كبار السن والمرضى: يعتبرون من الفئات الأكثر عرضة لمضاعفات سوء التغذية، خاصة مع نقص الأدوية والرعاية الطبية.

التدهور في مستوى المعيشة

الانهيار الاقتصادي:

  • أسعار المواد الغذائية وصلت مستويات فلكية (الكيلو من الدجاج 120 شيقل مقابل دولار قبل الحرب)
  • انعدام فرص العمل لغالبية السكان
  • نقص السيولة النقدية الحاد

تدهور الخدمات الأساسية:

  • انقطاع شبه كامل في خدمات الكهرباء والمياه
  • تدمير المرافق الصحية والتعليمية
  • تراجع الخدمات الاجتماعية
  • السياسات التلاعبية
  • استغلال الجمعيات الخيرية

تم توظيف أنشطة الجمعيات الخيرية إعلامياً لإظهار وجود تحسن في الوضع الإنساني، بينما الحقيقة أن:

  • المساعدات المسموح بها محدودة جداً ولمرة واحدة فقط
  • الأسعار تبقى خارج قدرة معظم السكان
  • التصوير الإعلامي لا يعكس الواقع الحقيقي للنقص
  • احتكار التجارة الإنسانية

تم تقييد دخول المواد التجارية على تاجرين فقط مرتبطين بمؤسسة غزة الإنسانية، مما يخلق:

  • احتكاراً فعلياً للمواد الغذائية
  • عدم وجود منافسة حقيقية تخفض الأسعار
  • تعقيدات في عمليات الدفع (مزج بين التحويلات الإلكترونية والنقد)
  • انتهاك القانون الدولي الإنساني

يشكل استخدام التجويع كسلاح حرب انتهاكاً واضحاً لـ:

  • اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية
  • القانون الدولي الإنساني
  • نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

ردود الفعل الدولية

رغم الإدانات الدولية المتكررة، بما في ذلك من الإدارة الأمريكية الجديدة، لم تترجم هذه الانتقادات إلى تدابير فعالة لوقف استخدام التجويع كسلاح.

السيناريوهات المستقبلية

السيناريو الأسوأ

  • استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى:
  • تفاقم الأزمة الإنسانية وارتفاع أعداد الضحايا
  • انهيار كامل في البنية الاجتماعية والاقتصادية
  • موجات نزوح قسرية أكبر
  • تبعات صحية طويلة المدى على الأجيال القادمة

السيناريو المتوسط

  • تدخل دولي محدود قد يحقق:
  • تحسناً جزئياً في دخول المساعدات
  • استقراراً نسبياً في الوضع الإنساني دون حل جذري
  • استمرار الضغوط على السكان المدنيين

السيناريو الأفضل

تدخل دولي حازم وفعال يشمل:

  • فرض آليات مراقبة دولية صارمة
  • ضمان دخول المساعدات دون عوائق
  • محاسبة قانونية لانتهاكات القانون الدولي الإنساني
  • برنامج إعادة إعمار شامل

التوصيات

على المستوى الإنساني العاجل

  • إنشاء ممرات إنسانية آمنة تحت إشراف دولي مباشر
  • تفعيل آليات الحماية المدنية وفقاً للقانون الدولي الإنساني
  • زيادة حجم المساعدات الطبية والغذائية بشكل منتظم ومستدام
  • إنشاء نظام مراقبة دولي لضمان وصول المساعدات لمستحقيها

على المستوى القانوني والسياسي

  • تفعيل آليات المساءلة الدولية أمام المحاكم المختصة
  • فرض عقوبات اقتصادية مستهدفة على المسؤولين عن انتهاكات القانون الدولي
  • تطوير آليات الحماية المدنية في القانون الدولي
  • تعزيز دور المنظمات الإنسانية الدولية في مناطق النزاع

تمثل الأزمة الإنسانية في قطاع غزة نموذجاً معقداً لاستخدام التجويع كسلاح حرب في النزاعات المعاصرة. الطبيعة المنهجية والمحسوبة لهذه الاستراتيجية تتطلب استجابة دولية متناسبة وفعالة تضع الاعتبارات الإنسانية في المقدمة.

النجاح في مواجهة هذه الأزمة لا يتطلب فقط الاستجابة الإنسانية العاجلة، بل أيضاً إعادة النظر في آليات الحماية المدنية الدولية وتطوير أدوات أكثر فعالية لمنع استخدام الحاجات الإنسانية الأساسية كأسلحة في النزاعات المسلحة.

إن الوضع الحالي في غزة يطرح تساؤلات جوهرية حول فعالية النظام الإنساني الدولي وقدرته على حماية المدنيين في النزاعات المعاصرة، ويستدعي مراجعة شاملة للسياسات والآليات المتبعة في هذا المجال.

المصدر : متابعة-زوايا
atyaf logo