انهيار الوهم

حرب غزة.. التدمير هدف بحد ذاته والعالم ينتقل من التضامن إلى الإدانة

أثار القصف الاسرائيلي على قطاع غزة
أثار القصف الاسرائيلي على قطاع غزة

بعد أكثر من 21 شهراً من الحرب المستمرة على قطاع غزة، تشهد الأوساط التحليلية الإسرائيلية تحولاً جذرياً في تقييم الوضع الراهن. فالمؤشرات تتجه بوضوح نحو ترسيخ استنتاجين محوريين: استنفاد الحرب لقدراتها على تحقيق أهدافها المعلنة، والتراجع الجوهري في المكانة الدولية لإسرائيل. هذا التحول في الإدراك الإسرائيلي يستدعي قراءة متأنية لتداعياته الاستراتيجية والسياسية خاصة أن هناك إجماع متزايد على نتيجتين أساسيتين:

  • الحرب استنفدت نفسها وفشلت في تحقيق أهدافها المعلنة.
  • تراجع مكانة إسرائيل الدولية نتيجة المجاعة الممنهجة والدمار الشامل.

هذه النتائج لا تهدد فقط صورة إسرائيل الدولية، بل تؤسس أيضاً لتصدعات داخلية عميقة في ثقة الجيش بالحكومة.

أولاً: التدمير كهدف بحد ذاته

تكشف التحليلات الإسرائيلية عن تحول خطير في منطق الحرب، حيث بات تدمير قطاع غزة هدفاً مستقلاً بذاته، بعيداً عن الأهداف المعلنة أصلاً. هذا التوجه يعكس رغبة مضمرة في منع عودة الفلسطينيين للعيش في القطاع، مما يشير إلى بُعد ديموغرافي في الاستراتيجية الإسرائيلية.

أزمة المبررات والشرعية الداخلية

يواجه أنصار نتنياهو تحدياً متزايداً في تبرير استمرار الحرب أمام الرأي العام الإسرائيلي. فالحديث عن "النصر النهائي" لم يعد مقنعاً، خاصة مع تراكم الخسائر البشرية وغياب الإنجازات الملموسة. الأسماء التي تُعرض كـ"إنجازات" ضد قادة حماس والجهاد باتت مجهولة حتى للإسرائيليين أنفسهم، في حين تتزايد معدلات الانتحار بين الجنود بسبب الصدمات النفسية.

التساؤلات المجتمعية المتنامية

يتساءل المواطنون الإسرائيليون بوضوح متزايد عن جدوى استمرار الحرب، وعن رفض الحكومة لصفقات التبادل الشاملة. هذه التساؤلات تعكس تآكلاً في الإجماع الداخلي حول الحرب، وتنامي المعارضة المجتمعية لاستمرارها.

ثانياً: الفشل العسكري المتراكم

إقرار النخب العسكرية بالفشل

تؤكد التحليلات الإسرائيلية والتصريحات النقدية للقادة العسكريين السابقين فشل العملية العسكرية الحالية في تحقيق أهدافها الأساسية. فالجيش الإسرائيلي لم يتمكن من هزيمة حماس أو إطلاق سراح المختطفين، بينما تراكمت خسائره البشرية بشكل كبير.

الأزمة القيادية والصراع مع السلطة السياسية

يعكس إدراك رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال إيال زامير لعدم نية نتنياهو إنهاء الحرب أزمة عميقة في العلاقة بين القيادة العسكرية والسياسية. الضغط من قبل الوزيرين سموتريتش وبن غفير لاستمرار الحرب يضع القيادة العسكرية في موقف صعب، حيث تدرك عبثية الاستمرار دون أهداف واضحة.

دعوات الاستقالة والمقاومة المؤسسية

تعكس دعوة اللواء المتقاعد إسحاق بريك لرئيس هيئة الأركان بالاستقالة إذا رفض نتنياهو قبول الحقائق العسكرية مؤشراً على تنامي المقاومة المؤسسية داخل المؤسسة العسكرية. هذه الدعوات تكتسب أهمية خاصة في ضوء اعتبارها أن الجنود "يُقتلون عبثاً".

ثالثاً: تغيير السرديات الإعلامية.. من التضامن إلى الإدانة

شهدت وسائل الإعلام العالمية تحولاً ملحوظاً في تغطيتها للحرب، حيث أصبحت تركز بشكل متزايد على الواقع المأساوي في قطاع غزة. هذا التحول لا يقتصر على وصف الأوضاع الحالية، بل يتعمق في استكشاف المعاناة التاريخية للفلسطينيين تحت الاحتلال.

تأثير الصور والشهادات المباشرة

أصبحت حقيقة الجوع والتجويع في غزة "حقيقة مطلقة" في نظر الرأي العام العالمي، بعد أن شاهدها مئات الملايين من المتلقين عبر وسائل الإعلام المختلفة. هذا التأثير البصري المباشر يصعب دحضه أو التلاعب به، مما جعل إسرائيل تتحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية الكاملة في نظر العالم.

من الصمت إلى الإدانة العلنية

لم تعد معاقبة إسرائيل أو إدانة سلوكها تُعتبر فعلاً مُشيناً في المجتمع الدولي، بل أصبحت "ردة فعل أخلاقية مطلوبة" بعد أكثر من 21 شهراً من الممارسات التي يراها العالم غير مقبولة.

رابعاً: التداعيات السياسية الدولية - نحو إعادة تشكيل التحالفات

المبادرة الفرنسية والاعتراف بالدولة الفلسطينية

يُعتبر إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون نيته الاعتراف بدولة فلسطينية خلال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل نقطة تحول مهمة. هذا الإعلان لا يمثل موقفاً فرنسياً منعزلاً، بل يعكس تحولاً أوروبياً أوسع تجاه القضية الفلسطينية.

دوافع الموقف الفرنسي المتعددة

تتضافر عدة عوامل في تفسير الموقف الفرنسي:

  • التأثر بالرأي العام المسلم في فرنسا
  • رغبة ماكرون في ترك إرث سياسي مهم كونه في ولايته الأخيرة
  • عدم وجود ضغوط انتخابية تحد من مواقفه
  • اعتبار الوضع في غزة فرصة لإحداث تغيير جوهري في السياسة الدولية

التأثير الدومينو المتوقع

تعتبر فرنسا أنها تفتح الطريق أمام دول أوروبية أخرى للاتجاه نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مما قد يؤدي إلى تحول جذري في الموقف الأوروبي تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

الخلاصة والتقديرات المستقبلية

تشير المؤشرات إلى أن إسرائيل تواجه أزمة استراتيجية متعددة الأبعاد تتطلب إعادة نظر جذرية في سياساتها. فالفشل في تحقيق الأهداف العسكرية المُعلنة، مقترناً بالتراجع الدولي المتسارع، يضع إسرائيل أمام خيارات صعبة.

السيناريوهات المحتملة

سيناريو الاستمرار: قد تواصل إسرائيل حربها رغم التكاليف المتزايدة، مما سيعمق عزلتها الدولية ويزيد من تآكل الإجماع الداخلي.

سيناريو التراجع التدريجي: قد تلجأ إسرائيل إلى تخفيف حدة العمليات العسكرية تدريجياً، مع محاولة الحفاظ على بعض المكاسب.

سيناريو التغيير الجذري: قد تؤدي الضغوط الداخلية والخارجية إلى تغيير في القيادة السياسية أو في الاستراتيجية العامة.

التحديات المستقبلية

تواجه إسرائيل تحديات جوهرية في إعادة بناء مكانتها الدولية وشرعيتها، خاصة في ظل التحولات العميقة في الرأي العام العالمي والمواقف الحكومية. كما أن الحاجة إلى إعادة بناء الجيش وإعداده لمواجهة تهديدات إقليمية أخرى تتطلب إنهاء الحرب الحالية.

إن التحليلات الإسرائيلية الحالية تعكس إدراكاً متنامياً لعمق الأزمة وحاجة إسرائيل الملحة لإعادة تقييم استراتيجيتها بشكل جذري، قبل أن تصبح التكاليف السياسية والاستراتيجية أكبر من أي مكاسب محتملة.

المصدر : متابعة-زوايا
atyaf logo