من غزة إلى بروكسل ... سرديات قاسية لناجين من الهجرة

المهاجرين في بروكسل
المهاجرين في بروكسل

الاقتراب من حد الموت والنجاة والفقد وأهوال البحر وبريق اليورو، هي خلاصة أحاديث الناجين خلال رحلة الهجرة إلى العواصم الأوروبية، قصص لا يملون من سردها أمامك كبطولة من جهة القدرة على البقاء تارة، ومأساة تلازمهم تارة أخرى لا يكفون عنها ولا يملكون خلاصا منها، كونها تجربة مريرة فقد كلّ منهم خلالها بعضا من حياته وإن وصل جسداً سالماً الى البر الغربي، فهناك من ترك حبيبا أو أضاع رفيقا أو حياة بأكملها.

لعنة الرحلة لم تغادر شفاه الكثير ممن التقيناهم في "زوايا"، كلما انجرفت الذاكرة صوب تفاصيل أكثر إيلاما مما يحاذرون من ذكره، أمامك أو خلال مراجعات النفس لمسار الأحداث المريرة التي عايشها بعضهم حتى بعد الوصول والاعتقاد بنهاية الرحلة، التى بدأت معها تفاصيل أخرى تحت البرد القارس والمطر والجوع لأشهر عدة في شوارع وخرابات المدن الأوروبية وأمام دوائر ومكاتب الهجرة.

في محطة القطارات (Brussul Noord) بالعاصمة البلجيكية بروكسل، لا تخطئ العين علامات الخوف والقلق المزمن التى تتبدى على الوجه الشرق أوسطي تحديداً، بعدما تركت المعاناة ندوبها بشكل صارخ على ملامح الكثيرين الذين يحاولون التحايل عليها من خلال الاندماج في مظاهر الحياة الأوروبية.

ولن يكلفك الأمر الكثير للتعرف على أحداث المعاناة سوى التدقيق في الوجوه أو السلوك أو اللغة للوصول إلى قصص وحكايا الكثير منهم، ثمة أوجاع لا تختفي بالسهولة التي اعتقدها الكثير منهم، عليك فقط أن تفجر الحكاية أمامهم لتبدأ الذاكرة في التداعي أمامك.

في الطريق الى مدينة Antwerpen

في انتظار القطار المتجه من بروكسل إلى مدينة "انتوير بن" كبرى المدن الفلامانية في رحلة تمتد زهاء الساعة التقينا في "زوايا" بشاب يجلس على رصيف المحطة منهمكا في هاتفه بدت ملامحه عربية اقتربنا منه للسؤال عن أحد العناوين في المدينة وتبادلنا أطراف الحديث ريثما يصل القطار، لكنه بدا متحفظا واكتفي بإخبارنا أن ساحة القطار في المدينة تعج بالعرب الذين هم على دراية بالمكان أكثر منه كونه حديث عهد بالمدينة ولم يمضي على وصوله هنا سوى شهرين ويعيش في أحد مراكز الاستقبال التي يجري توزيع اللاجئين عليها من قبل السلطات البلجيكية.

اقرأ/ي أيضاً: سلوك البلديات بغزة.. كيف أضر بشعبية حماس وخدمات المواطنين؟

أخبرنا أنه متجه للقاء صديق سبقه إلى هنا بأشهر معدودة، ليساعده في الحصول على فرصة عمل بـ"الأسود" (هو عمل لا يخضع لقوانين العمل في البلد)، حيث أتت الرحلة على كل ما كان بحوزته من أموال جنى معظمها من عمله في تركيا قبل أن يغادرها إلى بروكسل براً.

الشاب محمد "27 عاما" الذي خرج من قطاع غزة بعدما أنهى تعليمه الجامعي وحصل على بكالورويس في تخصص التربية الرياضية يقول لـ"زوايا": "استغرقت رحلتي أشهر من المحاولات برا وبحرا من الأراضي التركية إلى اليونان، ومن ثم صربيا وصولا إلى هنغاريا".

ولا يزال الشاب الغزي يحتفظ بخرائط هذه الرحلة، حتى انتهى به المطاف في بروكسل، طمعا في تحسين الظروف الحياتية والمعيشية المتردية لأسرته. لكن عليه أولا أن يكافح من أجل تسديد ديون الرحلة، حيث بلغت كلفة الوصول إلى هنا ما يقارب من 15 ألف يورو، وفق تصريحه لـ"زوايا".

الشاب النحيل كان يتحدث وهو قلق ويتلفت يمينا ويسارا فهو يصعد القطار مثل الكثيرين دون أن يدفع ثمن التذكرة والتي تبلغ 10 يورو، يقول: "إن الحياة هنا ليست سهلة والعالم قاس لأبعد الحدود، كل شيء هنا يدور حول اليورو، ومن دونه لا مكان ولا حياة لك. لكنه مجبور على أن يحتمل كل ذلك من أجل زوجته وطفلة الصغير وأسرته، فالجميع هناك في غزة يتطلع إلى نتائج الرحلة على شكل تحويلات مالية، حسب تعبيره.

قانون العيش

اجتاز القطار مدينة Antwerpen ذات الأغلبية المهاجرة من كافة الجنسيات وصولا إلى مدينة (Sint-Neclas) في الجانب الهولندي، التقينا في "زوايا" هناك بالشاب محمد. ز "27 عاما"، وهو يعيش داخل مركز للجوء في انتظار الحصول على الاقامة البلجيكية وقد مضي على وجوده هنا أكثر من عام ونصف، تفاصيل رحلة المعاناة لا تختلف كثيرا إلا من حيث درجات الخطورة والتعقيد.

لكن الشاب الذي أنهى دراسة الحقوق في جامعة الأزهر بغزة وحصل على شهادة مزاولة المهنة من نقابة المحامين وصولا إلى تأليف كتاب في هذا السياق، لم يجد مكانا له في سوق العمل المكتظ والذي أغلق على من فيه بغزة، فقرر في نهاية المطاف خوض غمار هذه التجربة التى يقول إنها غيرت كثيرا من حياته وظروفه المادية.

يقول الشاب محمد إنه عمل في أكثر من مجال، ابتداء من صناعة السجاد وصولا إلى معامل الألمنيوم، أما مجال الحقوق فلا مكان له هنا كما يقول، فما درسته من قوانين وتشريعات ومرافعات يختلف عما هو معمول في بلجيكا ، فكان لزاما عليه ان يبحث عن مهنة في أوروبا لا تحتاج إلى نخب أو متخصصين بل مهنيين وعمال، وفق وصفه، لذلك قرر التخلي عن أحلامه والنزول إلى متطلبات الواقع، وهو يتمنى الآن أن يحصل على عقد دائم في أي من الشركات عبر مكاتب التوظيف المعروفة هنا باسم (AGO)، لكنه يشعر بالرضى والارتياح تجاه نفسه كونه تمكن من تحسين الظروف المعيشية لأسرته.

أفضل ما يفعله الفلامانيين

رغم الشعور بالأمان هنا ومظاهر الحياة الأوروبية المفتوحة على مصراعيها، إلا أن الكثير ممن وصلوا هنا لا زالوا غير قادرين على الاندماج بالمفهوم الأوروبي، والذي يحتاج إلى أكثر من الاستجابة للمظاهر العامة أو الالتزام بقوانين المكان، لكن هناك من يناضل لينخرط في هذه الحياة محاولا إلقاء أعباء الماضي وراء ظهره.

الشاب رؤوف ج " 28 عاما "، والذي خرج من مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، هرباً من ظروفه الاجتماعية وحالة التفكك الأسري التى كان يعانيها يقول لـ"زوايا" إنه اضطر إلى تحمل أعباء أسرته مبكرا بعد انفصال والديه وهو في سن 13 عشر من عمره. وهو يناضل مثل الكثيرين لتحسين شروط حياته، لكنه بدا أكثر استجابة من غيره لهذه المظاهر من خلال الانغماس في نمط وأسلوب الحياة الغربي فهو يعتبر أن ما يجري له فرصة ثمينة للتغيير، لكن دون ما يسميه المساس بالمعتقدات والأصول.

يؤكد الشاب رؤوف، والذي حصل مؤخرا على الإقامة البلجيكية ويعمل في مجال الإنشاءات والإعمار، أنه يطمح اليوم لتثبيت قدمه في هذا المجال، فهو إلى جانب خبرته التي اكتسبها في غزة، والتي لم تكن توفر له سابقا أدنى متطلبات الحياة عززها هنا بمزيد من الدراسة من خلال الالتحاق بـ(VDAB) وهي دائرة العمل والتدريب المهني والتوظيف في بلجيكا، فهو لا يفضل العيش على المساعدات التي تمنحها الدولة مثل الكثيرين، ويحاول بكل الطرق تنمية مهاراته المهنية، ويلاحق طموحه في أن يؤسس يوما ما شركة للمقاولات.

غزة بالنسبة لرؤوف هي الوجع المقيم والذي لا يغادره، كما يقول، فوالدته وإخوته الذين تركهم من خلفه هم شغله الشاغل وهو يسعي إلى تغير حياتهم، ويرسل الأموال من أجل شراء منزل لعائلته التي تعيش في الإيجار منذ سنوات طويلة.

تابوهات الغربة

هجرة الفتيات من غزة إلى أوروبا لم تكن أمراً اعتيادياً أو سهلاً وإن بات مقبولاً اليوم تحت إلحاح الحاجات والظروف الاقتصادية والاجتماعية المتردية، من بينها تراجع العديد من المفاهيم والعادات المغلقة والتي كانت سائدة تجاه هجرة وسفر المرأة إلى أوروبا، بعض هؤلاء الفتيات واللواتي جرت عليهن أحكام الرحلة من حيث المخاطر وصلن في إثر عوائلهن أو أزواجهن، وأخريات كسرن تابوهات المجتمع بحثا عن الفرص.

الفتاة أمل. ع " 25 عاما " من مدينة خانيونس جنوب القطاع، والتي وصلت إلى أوروبا بعد رحلة قاسية عايشت خلالها تجارب مؤلمة من أجل الالتحاق بزوجها الذي سبقها إلى بلجيكا قبل عامين، تفيض دموعها كلما داهمتها أحداث الرحلة والتي تتمنى أن لا يعايشها أحد عبر قوارب الموت المنطلقة من تركيا وصولا إلى جزيرة كوس اليونانية، حيث كانت عرضة للسجن وللموت في أكثر من مرة وأمضت أوقاتاً عصيبة داخل مخيمات اللجوء الموزعة على الجزيرة.

اقرأ/ي أيضاً: لماذا سمحت حكومة غزة بـ"تصاريح المشغل" للعمل في (إسرائيل)؟

تقول أمل، التي تعيش هي وزوجها داخل مركز (Petit Chateau) في قلب العاصمة بروكسل، إنه لم يكن أمامها خيار سوى خوض غمار هذه الرحلة بكل أعبائها النفسية والمادية، أو انتظار إجراءات لم الشمل بعد أن يحصل زوجها على الإقامة والتى قد تستغرق عاما ونصفا إلى ثلاثة أعوام على أبعد تقدير، كما أن وصولها إلى بلجيكا سوف يساهم في تسريع وتيرة هذه الإجراءات.

الهروب بالمهنة

الصحفي محمد عثمان، له أسباب مختلفة دعته للخروج من قطاع غزة، أكد لـ"زوايا" أن ما دفعه نحو الهجرة المخاطر والتهديدات التي تلقاها على خلفية عمله كصحفي استقصائي وصلت إلى حد المساس بحياته، بعدما تعرض للملاحقة والاعتقال لدى الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة حماس، بعدما كشف خلال تحقيقات استقصائية أجراها عن حجم الفساد داخل المؤسسات الحكومية، ليضطر في نهاية المطاف إلى الخروج من غزة.

محمد والذي وصل بروكسل أواخر عام 2016 لم يتخلى عن مهنة الصحافة ، وقرر أن يمضي قدماً في مشواره الإعلامي مستغلاً منصة التواصل الاجتماعى "TikTok"، والتي اكتسب من خلالها شهرة في أوساط اللاجئين، لتبنيه قضايا الهجرة الإنسانية وتقديم النصائح والمعلومات لطالبي اللجوء.

لا تنتهي حكاية الوجع أيا كانت دواعيه عند هذا الحد بالنسبة للاجئين الفلسطينيين في رحلتهم من المخيم إلى بروكسل، ستبقى تتناسل الرواية في الذاكرة وتنتج نفسها في كل مرة تلامس الشعور بالاغتراب أو الحزن أو كلما طغى الحنين إلى المكان الذي سيبقى أرضا ووطنا وإن دقت وحوصرت فيه أحلامهم.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo