الأمن الداخلي المسكوت عنه في غزة!

ناقوس الخطر
ناقوس الخطر

سأصف المشهد كما رأيته في ساعات الليل المتأخرة، بعدها ستظن أنني أحاول كتابة سيناريو رعب قاسي بعض الشيء، لكن الأمر عكس ذلك تمامًا، فالحقيقة أكثر قسوة من المشاهد السينمائية المصورة، لأنها ببساطة حقيقية، والفرق كبير بين الواصف والموصوف.

طفل لا يتجاوز التسع سنوات هائم على بطنه على جانب الرصيف في أول شارع الشهداء وسط مدينة غزة، في التقاطع الذي يأخذك شمالًا إلى تمثال الجندي المجهول، للوهلة الأولى ظننت أن ما أشاهده عبارة عن أكياس قمامة سوداء، فهذا للأسف صار أمر شبه طبيعي في شوارع المدينة، لكن مع مرور سيارة مضيئة عرفت أن ما أشاهده هو طفل "ميت" إلا من أنفاس قليلة غير مسموعة، لم أقل ميتًا مجازًا، الطفل لم يكن يقوى على شيء بالمرة، مستسلم تمامًا للكلب الذي كان يخطو فوقه متجها إلى الرصيف المقابل.

هذا الطفل خاصة يراه كل من يمشي في هذا الشارع، وهو شارع يسلكه بشكل يومي كل أركان الحكم والسلطة والفصائل في قطاع غزة، ناهيك عن أصحاب الرأي والمال والمصلحة، وللمفارقة فالطفل يبعد أمتار قليلة عن عدة تجمعات لأفراد الشرطة، ولا أظن أن الأمر يخفى عليهم!

طفل آخر لا يقل بؤسًا يجلس على الرصيف في ظل شجرة مقابل المجلس التشريعي تمامًا، هذا المجلس المنوط به حماية هذه الطفولة ورعايتها وتوفير الأمن لها أصبح باب استرزاق للمتنفذين، وتُرك المواطن على بابه ينهشه الذل والصمت وعيون المارة التي أخذ على ذلك المشهد فلم تعد تراه!

اقرأ أيضاً: الكاميرا الخفية بغزة تثير جدلاً حول المحتوى والهدف

لا أكتب هذا المقال كي ينضم إلى فئة المناشدات، أو فئة القصص الصحفية التي تملأ فراغ المواقع الإخبارية، بل أكتبه كي يكون صرخة مدوية في وجه كل المسؤولين في قطاع غزة وعلى رأسهم مدير الشرطة والنائب العام المسؤول الأول عن أمن المواطن وحمايته، وما بالك بأمن طفل ملقى على الأرض يعاني الحرمان والبرد، وقد يُدهس في أي لحظة دون أن يعرف السائق أنه قتل نفسًا من الأصل!

سألت كثيرًا عن هذه الحلات المنتشرة في شوارع وأزقة مدينة غزة، وعلى إشارات مرورها، فبعضهم يسرد حكاية من هول ما فيها من كلمات لا تصدقها، فالكثير من هؤلاء الأطفال لهم أسر ولكن رب هذه الأسرة لا يخاف ربه فيجبر الأطفال على التسول والعودة إلى المنزل في حال جَمع المبلغ المطلوب منه، وفي حال عدم جمعه لا يستطيع الطفل العودة إلى البيت وإلا واجه العذاب والضرب، وغيرها من الحجج الكثيرة التي لا يستقيم السكوت عليها وعمل الشرطة والنيابة العامة، فهذه جريمة يجب أن يتم الوقوف عندها، والبحث في أسبابها، وعلاجها، لأن تسول الأطفال في قطاع غزة بهذه الصورة الفجَّة هو أمر جديد عمره من عمر الانقسام تقريبًا، أي أن سبب هذه المشكلة هو سبب سياسي انعكس على الوضع الاجتماعي، لكنها تبقى حالة واقعة يمكن السيطرة عليها لو توفرت الإرادة لدى المسؤولين، فهؤلاء الأطفال لن يبقوا أطفالًا مدى الحياة، فهي سنوات قليلة وسوف يسلك كل مهم طريق الجريمة التي تتوافق وقدراته، وربما تتماشى مع الرؤية الانتقامية لديه من مجتمع لم يسانده يوم كان بحاجة إلى السند! وحينها سوف تصرف الحكومة على عواقب جريمته أكثر مما كانت ستنفقه عليه من أجل إصلاحه وتوفير حياة آمنة له في بيوت آمنة موجود بالفعل في قطاع غزة.

لا أريد أن أطيل في الكلام أكثر كي لا يفقد النص معناه، الأمر خطير فعلًا، وتهديد فعلي وحقيقي لأرواح بشر نحن مأمورون بحكم الدين والأخلاق والقانون أن نحافظ عليها ونرعاها، وهذه أمانة في أعناق أهل المسؤولية من حكومة وفصائل وأصحاب قدرة، فأنا وأمثالي من الناس الذي يشاهدون هذه الطفولة المعدمة نتقطع من دواخلنا ولكن لا سبيل لنا للتدخل بشكل شخصي لأننا لا نملك ذلك بشكل قانوني، ولا نستطيع ذلك بالشكل الاجتماعي والمادي، لأن ذلك سوف يدخلنا في دوامة من المشاكل العائلية، فها أنا أكتب ليس من باب إخلاء المسؤولية بل من باب تثبيتها على القائمين على أمر البلاد وحاكميها، فهذا السلوك وهذا المشهد هو تهديد للأمن الداخلي، ويعكس صورة سيئة جدًا عن مدينة يرفع الناس رأسهم باسمها وسيرتها.

WhatsApp Image 2022-04-26 at 11.43.17 PM.jpeg
WhatsApp Image 2022-04-26 at 11.43.15 PM.jpeg
تصوير: الصحفي محمد عوض

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo