لا يقتصر إعلان الاحتلال الإسرائيلي الانتهاء من بناء جدار عائق حول قطاع غزة بتكلفة باهظة، على محاربة أنفاق المقاومة وحسب، بل يكرس حصارا من نوع جديد، ومصادرة لحق المزارعين في المياه والزراعة، ويؤثر على بيئة القطاع بشكل عام.
فـ"الجدار العائق" هو عبارة عن سياج إسمنتي فوق وتحت الأرض بطول 65 كيلومتراً، وبعمق يتراوح ما بين 40 -50 متراً، تم إنشاؤه عبر إنزال أقفاص من الحديد المسلح في باطن الأرض قبل سكب الخرسانة، حيث يصل الجدار حتى المخزون الجوفي في معظم المناطق، ويشكل عائقاً صناعياً أمام الحركة الجانبية للمياه الجوفية.
أبعاد جيولوجية
ودون معرفتهم للسبب الحقيقي، يشتكي مزارعون في المنطقة الشرقية لمحافظة خان يونس جنوب القطاع، من أنهم يلحظون بشكل متواصل تراجعاً كبيراً في خصوبة التربة، الأمر الذي حذاهم إلى زيادة نسبة الأسمدة والمخصبات الكيميائية في زراعاتهم.
وأرجع خبير التربة والمياه م. نزار الوحيدي، ذلك إلى إلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات في تلك المناطق منذ 2008 وحتى 2021، وهي الفترة التي شهدت شن الاحتلال الإسرائيلي أربعة حروب على قطاع غزة.
اقرأ أيضاً: نفايات غزة.. ثروة متعددة المنافع بحاجة لاستغلال أمثل
وذكر الوحيدي لـ "زوايا" أن الجدار العائق "زاد الطين بلة" حيث يمنع "النشاط الحيوي الطبيعي" داخل التربة، وهو عبارة عن تفاعل مستمر لكائنات حية، مهمتها تحليل جزئيات التربة والمكونات العضوية، بما يؤدي إلى تراجع خصوبة الأرض، بسبب وجود عائق صناعي على عمق كبير يحد من نشاطها وحركتها.
وأكد الوحيدي أن تداعيات إنشاء الجدار الجديد، زادت من عوامل تصحر التربة شرقي القطاع بصورة واضحة، إذ بلغت مساحة الأراضي المتصحرة قبل عام 2015 نحو 115 ألف دونم، وزادت لاحقاً بواقع 50 ألف دونم حتى العام الحالي 2021.
وحسب الوحيدي، فإن وزارة الزراعة فحصت التربة بجهاز لقياس الإشعاعات في عام 2015، وثبت وجود مواد مشعة في التربة وعناصر ثقيلة خطرة، لها علاقة بالطفرات الجينية وزيادة التصحر، وتشوهات الأجنة في المواشي.
مخالف للقانون الدولي
ويخالف الجدار وبشكل صريح البند (54) من البروتوكول الأول المرفق لاتفاقيات جنيف من العام 1977، والذي يحظر "مهاجمة، تدمير، إبعاد أو منع استخدام المرافق الحيوية للسكان المدنيين، بما في ذلك مخازن الغذاء، الحقول الزراعية ومرافق تزويد مياه الشرب، وشبكاتها وأشغال الري، والتربة الزراعية".
ويرى البروفسور محمد رمضان الأغا، أستاذ العلوم المشارك في الجامعة الإسلامية، أن الجدار العائق، هو ليس فقط لاتخاذ إجراءات احتلالية ضد اختراقات المقاومة وإنما لاتخاذ إجراءات ضد البيئة الفلسطينية، مبيناً أن الاحتلال يرفض –حتى الآن- الإفصاح عن العمق الذي وصل إليه الجدار داخل الأرض، حيث يدور الحديث عن 20-30 متر، ولكن بعض المعلومات تتحدث عن 70-80 متر وهذا "عمق خيالي".
وذكر الأغا في حديث لـ"زوايا" أن هذا العمق الكبير يدلل على أن الجدار وصل إلى المياه الجوفية، علماً أن جزءا كبيرا من خزان المياه الجوفية لقطاع غزة يتم تغذيته من خزان الضفة الغربية وأراضي الـ48، حيث أن عملية التغذية تتم من الشرق إلى الغرب بسبب الانحدار الموجود في طبيعة طبقات الخزان الجوفي، وبالتالي فإن جزءا من التغذية من مياه الضفة الغربية وتحديداً من جبال الخليل يفترض أنها تصل إلى غزة بعشرات الملايين من الأمتار المكعبة سنوياً.
وأوضح أنه وبفعل "الجدار العائق"، يتوقع جداً أن تقل كمية التغذية السنوية للخزان الجوفي للقطاع، ما سيسبب مشكلة كبيرة نتيجة النقص الحاد في كمية المياه الجوفية التي يحتاجها القطاع للاستخدامات المختلفة سواء للشرب والزراعة والصناعة وغير ذلك.
وذكر الأغا أن هناك خشية من عمليات تلوث متوقعة بسبب وجود موجات كهرومغناطيسية وملوثات مختلفة من المواد الداخلة في بناء الجدار، كما أن هناك خشية من وجود مواد مشعة في المواد المستخدمة في الجدار والتي تلوث المياه والتربة، وبالتالي تأثر الزراعة القائمة عليهما بطريقة تسبب ضرراً مباشراً للمزارعين وسكان القطاع عموماً.
ويرى الأغا أن العملية تحتاج إلى إعادة حسابات واحتجاج على إجراءات سلطات الاحتلال، حيث أن ذلك مخالف للقانون الدولي في تغيير طبيعة الموارد وسرقتها من السلطات التي تهيمن على الموارد سواء فوق الأرض أو تحتها.
ونوه الأغا إلى شكل آخر من أشكال مخالفة الاحتلال للأعراف والقانون الدولي، وذلك بتعمده فتح السدود المائية للتخلص من مياه الأمطار الفائضة في الطرف المحتل من جانبه، مؤكداً أن الاحتلال مارس هذا الإجراء عشرات المرات على مدار السنوات الماضية دون سابق إنذار من خلال التخلص من عدة ملايين من أكواب مياه الأمطار وأحياناً المياه الملوثة.
اقرأ أيضاً: صور واحصائيات.. خسائر الزراعة تفوق 200 مليون$ والإهمال يطيل أمد التعافي
وأردف: "كما أدى ذلك إلى الكثير من الأضرار البيئية والخسائر في ممتلكات المواطنين بملايين الدولارات مثل غرق الأراضي الزراعية ومزارع الإنتاج الحيواني، فضلاً عن غرق منازل المواطنين القريبة من الوديان الموجودة على الحدود الشرقية والشمالية للقطاع مثل "وادي السلقا، ووادي بيت حانون، ووادي غزة".
وتطرق الأغا إلى ما تتعرض له الأراضي الزراعية على حدود القطاع تحديداً من قصف متواصل أثناء الحروب والتصعيد من وقت لآخر، بآلاف الأطنان من المتفجرات والتي يصنع الكثير منها من اليورانيوم المنضب المحرم دولياً، حيث يقوم الاحتلال بالتخلص من-اليورانيوم المنضب- في القطاع بدواع مختلفة، منها توجيه الضربات للمقاومة.
وحذر الأغا، الذي شغل سابقاً منصب وزير الزراعة في الحكومة الفلسطينية لسنوات، من أن القصف الصهيوني بالقذائف المصنعة من اليورانيوم المنضب يُحدث أضراراً مباشرة في الأرض وتلوث التربة والمياه بشكل ملحوظ، وبالتالي التأثير على المزارعين ومنتجاتهم، لافتاً إلى أنه سبق وأن تم الطلب من جهات دولية وأممية بالمساعدة في فحص التربة والمياه وفضح جرائم الاحتلال في هذا المجال.
الأبعاد الأمنية والسياسية
ومن زاوية الأبعاد الأمنية والسياسية لـ"الجدار العائق"، وهل يحقق أهدافه بالحد من قدرات المقاومة؟، يرى المختص في الشؤون الأمنية محمد أبو هربيد، أن هدف الاحتلال من بناء الجدار العائق هو الدفاع عن أمن كيانه ودرء المخاطر من قطاع غزة، معتبراً أن بناء الجدار جاء رد فعل على قدرة المقاومة على اختراق الحدود وتنفيذ عمليات نوعية عبر الأنفاق الأرضية.
وأوضح أبو هربيد لـ"زوايا" أن بناء الجدار وتطوير القبة الحديدية، يأتيان كنوع من تحصن الاحتلال بهما من واقع الهزيمة في التصدي لضربات المقاومة وليس من باب المبادرة بالهجوم، عاداً أن "الجدار العائق" هدفه منع خطر الأنفاق، حيث أن الاحتلال اجتهد أكثر من مرة لتحقيق ذات الهدف، ولكنه –هذه المرة- يعتقد أن الجدار العائق سيكون قادراً على منع اختراق المقاومة ووصولها إلى عمق الأراضي المحتلة عام 48.
واعتبر أبو هربيد أن احتفال الاحتلال بإنهاء بناء الجدار العائق، سيعود بالنتيجة السلبية عليه في المستقبل، لأن المقاومة حتماً ستقوم باختراق هذا الجدار، وسيتبع ذلك انهيارا في منظومة الأمن والجيش والاستخبارات الإسرائيلية.
وقال "هذا يشبه الدعاية التي جاءت مع القبة الحديدية، وتبين لاحقاً أنها غير حديدية وفشلت في منع قصف مدن كبيرة في الداخل المحتل كتل آبيب في الحرب الأخيرة"، مضيفاً "إن الجدار لن يوفر الأمن المنشود لإسرائيل، على اعتبار أن المقاتلين في غزة يختلفون عن أي مقاتلين في العالم، فهؤلاء شقوا البحر وحفروا الأرض عندما صنعوا سلاحهم بأيديهم".
وحسب رأي أبو هربيد، فإن جيش الاحتلال كان ضد فكرة بناء الجدار، حيث يعتبر الأخير أن صرف مليار ومائة دولار على الأسلحة الهجومية كان أولى من بناء الجدار للدفاع عن أنفسهم، مشيراً إلى أن "الجدار هو محل اختبار الآن لدى الكيان" .
ولفت أبو هربيد إلى أن الاحتلال قام بضخ ستة مليار شيقل لإقامة مدن في منطقة الجنوب المحيطة بقطاع غزة، وبالتالي مجموع المستثمرين ووزارة الحرب الصهيونية أقاموا الجدار كي يعملوا على تسويق الشقق والمعارض والمحلات في منطقة الجنوب.
واعتبر أبو هربيد أن تسويق الجدار على أنه سيحمي دولة الاحتلال من اختراقات المقاومة "غير صحيح"، وللجدار أبعاد اقتصادية ودينية حقيقية يطول الحديث فيها"، منوهاً إلى أن كما كبيرا من الانتقادات تتداولها الصحافة الإسرائيلية حول الجدار العائق على حدود قطاع غزة.
ومن حيث انتهى أبو هربيد في حديثه عن أبعاد بناء الجدار، بدأ الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل حديثه بالقول: "إن تحصن الاحتلال وراء الجدر امتداد لحياة ما يسمى "الجيتو اليهودي"، ما يعني أن بناء الجدار العائق هو ذو بعد ديني انعزالي وعنصري".
وأشار عوكل في حديثه لـ"زوايا" إلى أن هذا الجدار الذي يلتف حول غزه بطول ٦٥ كم، قد يُكمل رسم مشهد السجن، ولكنه لن يحول دون قدرة الشعب الفلسطيني على الإبداع في مواجهة الاحتلال، حيث ستواصل المقاومة إبداعاتها لتجاوز هذا العائق، مؤكداً أن الاحتلال سيكتشف أنه صرف أكثر من ثلاثة مليارات من الشواكل دون أن يحمي مستوطنيه.
ونوه عوكل إلى أن الجدار الإسرائيلي هدفه السياسي يتمثل في إخراج قطاع غزة من المسؤولية الإسرائيلية كدولة احتلال، واستكمال فصل القطاع عن الضفة والقدس، وإنهاء حل الدولتين، عبر تكريس انفصال قطاع غزة، لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، على حد تعبيره.
يشار إلى أنه بالتزامن مع بناء الاحتلال جداره حول غزة، فقد بنت مصر جداراً على حدودها مع القطاع المحاصر، يشبه إلى حد كبير نظيره الإسرائيلي، من حيث استخدام الخرسانة، وإنشائه على جزأين تحت الأرض وفوقها، إضافة لآخر معدني أمامه، حيث يحمل مجسات إلكترونية وكاميرات حرارية ترصد أي شخص يقترب من الحدود الفلسطينية-المصرية التي يبلغ طولها 14 كيلومتراً، من معبر كرم أبو سالم وحتى شاطئ البحر الأبيض المتوسط.