غزة، ومصر، وطريق الآلام

الشريط الحدودي غزة ومصر
الشريط الحدودي غزة ومصر

العلاقة بين فلسطين ومصر ليست علاقة عابرة، ولا تخضع لرغبات السياسيين في أن تكون هناك علاقة، أو لا، هي أعمق من ذلك بكثير، هناك تاريخ طويل ممتد منذ آلاف السنين، وهناك تشابك الجغرافيا، وهناك اللغة، والدين، والثقافة الواحدة، وفي العصر الحديث هناك العدو المشترك، وربما المصير المشترك.

ما سبق ليس مجرد أشياء عابرة يمكن لأي نظام سياسي في أي من البلدين تجاهله، ولا أن تفسده بعض المواقف الغبية، ولا الصحافة الموجهة، إنها علاقة أمة واحدة، شاء من شاء، وأبى من أبى.

لا يوجد فلسطيني واحد لا يعترف بعمق هذه العلاقة، وأهميتها، ومركزيتها، كما لا يوجد فلسطيني واحد لا يعرف دور مصر التاريخي، ولأسباب يصعب شرحها تبدو مصر لكل فلسطيني كمحبوبة خطفت منه قلبه، وكيانه، فنحن لا نرى في مصر مجرد بلد عربي شقيق، إنما أماً، وحضناً دافئاً، وملجأً آمناً نلجأ إليه ساعة الشعور بالخطر.

غزة على وجه التحديد، وبحكم التصاقها بمصر، وخلق فاصل عدواني بينها وبين ما تبقى من فلسطين، والتحاقها بمصر لعقدين من الزمن، ما بين نكبتي1948 و 1967، واحتكاك أهلها المباشر بالشعب المصري، كل هذا زاد من طبيعة العلاقة الحميمية أصلاً، والتي تربط بين الفلسطينيين والمصريين تاريخياً.

الغزّيّون مرتبطون بمصر وجدانياً، وليس لمجرد حكم الجغرافيا، ربما أسست الجغرافيا لما سيكون من العلاقة تاريخياً، لكنها لم تعد محصورة في الجغرافيا، ولكل ما سبق فإن الغزيين لا يمكنهم تفهم ما يتعرضون له فيما يمكن تسميته بدرب الآلام، الغزيون ينتظرون من المصريين شعوراً مشابهاً لما يشعرون به تجاههم، وهم مؤمنون بأن الشعب المصري على الحقيقة يرى في الفلسطينيين امتدادهم، وفي القضية الفلسطينية قضيتهم، ولا يمكن للشعب المصري أن يكف عن اعتبار إسرائيل عدوه الحقيقي، ولا يمكن لكل المحاولات التطبيعية التي تشجعها جهات شاذة أن تجد آذاناً صاغية من الشعب المصري، ولقد شاهدنا آلاف المشاهد التي تدلل على وطنية المصريين، وإصرارهم على رفض إسراا ئيل، وكرهها، طالما بقيت إسراا ئيل محتلة لأراضي أهلهم الفلسطينيين.

نحن نعرف طبيعة الشعب المصري، لذلك لا نستطيع فهم، أو تفهم ما يحدث للغزيين خلال رحلة المعاناة ما بين معبر رفح والقاهرة.

نحن نعترف بحاجة مصر إلى الأمن، خاصة في سيناء بعد الأحداث الدامية التي افتعلها الإرهابيون، لكننا ندرك أن هناك حلولاً إن أرادت مصر، خاصة ونحن نرى مسافري التنسيقات- على سبيل المثال- يقطعون ذات المسافة التي يقطعها الغزيون في عدة أيام، في أقل من ست ساعات، ولو كان الأمن وحده هو السبب لما كان لمسافري التنسيقات أن يتخطوا عقبات الأمن.

يعرف الغزيون أيضاً طبيعة العداء بين النظام المصري والإخوان المسلمين، وعلاقة حماا س بالإخوان، لكن هناك ما تحتاج مصر لأن تعرفه أيضاً، حتى لا يؤخذ الكل بجريرة الجزء.

أولاً: حماس أعلنت فك ارتباطها التنظيمي بالإخوان، وأن المسألة لا تتعدى التوافق الفكري مع الإخوان، لكن حماا س أعلنت بوضوح بأنها تنظيم فلسطيني ليس له أي امتداد خارج فلسطين، وليس لها أي معركة سوى معركتها مع إسراا ئيل.

ثانياً: الغزيون ليسوا كلهم حماس، وإن كان لمصر مشكلة مع الإخوان، ومن ثم مع حماا س، فإن الشعب الفلسطيني في غزة لا يجوز أن يدفع كله ثمن هذه المشكلة.

ثالثاً: حتى حماس ذاتها قالت بوضوح: أن أمن مصر مقدس، وأنها جاهزة للتعاون مع مصر ضد كل ما من شأنه أن يمس الأمن المصري.

رابعاً: إننا نشهد علاقة رسمية مقبولة بين النظام المصري، وبين حماس، ونراقب كيف يحظى مسئولو حماس باستقبالات محترمة، بينما يتعرض بقية الشعب إلى ما يمكن وصفه بالمأساة، فالكمائن التي لا حصر لها، والتفتيش المتكرر خلال ذات الرحلة، والمبيت في العراء للشيوخ، والنساء، والأطفال، ومصادرة البضائع، كل هذا جعل من هذه الرحلة التي من المفترض ألا تتجاوز ست ساعات شاملة وقت الاستراحة، تصل لأيام قد تتحاوز الثلاثة أيام أو أكثر، ومن ثم صارت أشبه بدرب الآلام التي أُجبر المسيح عليه السلام على قطعها مكبلاً، وحاملاً صليبه، برغم أنها لا تتعدى كيلو متراً واحداً، بدءاً من المحكمة، وحتى القبر المقدس في كنيسة القيامة، لكن هذا الكيلو متر الواحد شهد معاناة لا يتحملها إلا نبي مرسل عليه وعلى أمه أفضل السلام، ودرب آلامنا الحديث الذي يمكننا قطعه في ست ساعات على أكبر تقدير، نقطعه الآن في عدة آيام، نحمل فوق أكتافنا أطفالنا، ومتاعنا، وآلامنا التي لا نتوقعها، بينما نسير وسط أهلنا المصريين الذين نحبهم، بل ونشعر بالانتماء لهم، بكل ما لهذه الكلمة من معنى..!

لأهلنا المصرين، وللحكومة المصرية، ولجيش مصر العظيم:

نحن لسنا أعداءً لمصر، لم نكن يوماً كذلك، ولن نكون، بل إن أقصى أمانينا أن نرى مصر في أحسن أحوالها، قائدة وزعيمة للأمة العربية، ونحن نتوقع من مصر ألا تتركنا فريسة للمعاناة، والآلام، فمصر هي بوابتنا الوحيدة تجاه العالم الخارجي الآن، بعد أن شددت إسراا ئيل حصارها حتى على الهواء الذي يتنفسه الغزيون، وأملنا ألا تضاعف الإجراءات القاتلة المتبعة على طول الطريق من معبر رفح وحتى القاهرة من شعورنا بالقهر، أو شعورنا بتخلي أهلنا عنا، ونحن مستعدون لتفهم حاجاتكم الأمنية، خاصة وأننا نرى في عدوكم عدواً لنا أيضاً، ولن نكون إلا سيفاً مع مصر يدافع عن كيانها، وسلامتها، وبقائها دائماً مرفوعة الرأس.

نرجوكم باسم روابط الدم، والتاريخ، وكل ما بيننا من القواسم المشتركة أن تخلصونا من كابوس هذه الرحلة المريرة، وأن تجدوا لنا حلاً يمكننا من السفر متى شئنا، دون أن نتعرض إلى أي من أشكال المهانة والإذلال.

وكما قلت أعلاه: فنحن لن نكون إلا معكم، وسيوفنا لن تقاتل إلا من يقاتلكم، فأنتم أهلنا، وامتدادنا، بل إن مصر القوية هي التي تبقي لنا شيئاً من الأمل في استعادة ما فقدناه في لحظة تعيسة من لحظات الزمن الإسرائيلي.

 

atyaf logo