بعد عقود من السلاح والسلام.. إلى أين تتجه القاطرة الفلسطينية؟

بقلم: د. غازي حمد


(1) تحولات جذرية


منذ عقود طويلة والفلسطينيون يبحثون عن حل لصراعهم المزمن والمستديم مع الاحتلال الإسرائيلي، وتبنوا الكثير من الحلول والوسائل التي اعتقدوا أنها يمكن أن توصلهم إلى بر العتق من الاحتلال وإقامة دولتهم الخاصة بهم، وقدموا في سبيل ذلك مسيرة كفاح معاناة طويلة، كلفتهم مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى، فضلا عن الخسائر الضخمة التي تكبدوها في أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم، والحقيقة أنهم ضربوا نموذجا فريدا من نوعه في استمرار مسيرتهم التحررية طوال قرن من الزمن، ولا يزالون إلى اليوم يحلمون باليوم الذي تتحقق تطلعاتهم في الحرية والاستقلال وعودة اللاجئين المهجرين.


في البداية كانت فلسطين بكامل ترابها هي حلمهم، وكان الكفاح المسلح طريقهم الوحيد، ثم لما دار الزمن دخلت منظمة التحرير الفلسطينية منحنيات ومنعرجات ومفترقات طرق شدتها بعيدا وأدخلتها في متاهات صحراوية دفعتها للتعاطي مع (السلام) مع عدوهم اللدود وترك البندقية والاكتفاء بنحو 23% من مساحة وطنهم التاريخي.


لا شك أن الفلسطينيين تعرضوا في مسارهم الطويل إلى الكثير من المؤامرات والضغوط وتخاذل الأنظمة العربية وصمت – أو قل تواطؤ- المجتمع الدولي وتركهم فريسة لهجمات ومخططات الاحتلال الإسرائيلي، لكن هذا لا يعفي الفلسطينيين أنفسهم جزءا من الإخفاق في تحقيق تطلعاتهم التاريخية والوطنية، كونهم العمود الفقري في مسار تحررهم.


 لقد شابت المسيرة الفلسطينية الكثير من نقاط الضعف والقصور والإخفاق تسببت في تشويش الصورة الكفاحية والثورية، وكانت سببا في تراجع قدراتهم وتدخل أطراف خارجية في التأثير على مسار العمل الوطني، ولا يمكن الهروب من الحقيقية أن أخطاء كبيرة -بل كوارث- ارتكبت مكنت دولة الاحتلال من الاستمرار في غيها وشراستها في التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.


(2) الفلسطينيون يتحملون جزءا من المسئولية


لقد تمثلت مشكلة الفلسطينيين طوال مسيرتهم التحررية وإلى الآن في عنصرين مهمين، الأول: فقدان القيادة الوطنية القوية القادرة على جمع شتاتهم وتمثيل تضحياتهم أمام المحافل الدولية، والثاني: في غياب الرؤية الاستراتيجية في معالجة الصراع مع الاحتلال. وهذا العنصران مثلا نقطة ضعف كبيرة سمحت للكثير من التدخلات وفرض الأجندة وتغيير المسار الوطني واستبدال الوسائل، مما أوصل الفلسطينيين إلى أسوأ حالاتهم من حيث الحضور السياسي والتأثير على مجريات الأحداث.


اليوم، الصورة الماثلة للصراع قاتمة ومؤلمة، فإسرائيل نجحت في فرض كافة مخططاتها الاحتلالية من مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتهويد القدس وطرد الفلسطينيين ومن ثم فتح أبواب التطبيع مع الدول العربية، فيما الفلسطينيون- وبعد سبعين عاما من الكفاح والنضال- لم يحصلوا على شيء من حقوقهم، سوى إنشاء سلطة ضعيفة فاقدة لكثير من الصلاحيات، كما أن  الصراعات الداخلية والخلافات السياسية استنزفت منهم عمرا طويلا وجهدا كبيرا، مما أضعف قوتهم وقدرتهم في استقطاب قوى مؤيدة ومناصرة  لهم.


(3)  أزمة القيادة


نبعت أزمة القيادة الفلسطينية منذ سنوات الأربعينات من القرن الماضي على وجه الخصوص، حينما احتدت الخلافات بين القوى السياسية الفاعلة آنذاك في التعاطي مع الاحتلال البريطاني والطروحات السياسية التي كانت تعج بها الساحة الفلسطينية، ووصلت إلى حد التحريض على بعضها البعض والاقتتال وتبادل الاتهامات، ورغم أنه جرت محاولات كثيرة لتشكيل قيادة واحدة  تمثل المجموع الوطني لكل القوى السياسية، إلا أن ذلك لم ينجح بصورة فاعلة مما أدى إلى تفاقم الاختلافات وتبعثر الجهود.


اقرأ أيضا: عن الانتخابات في القدس.. “وما نيل المطالب بالتمني”

 وبعدما ظهرت منظمة  التحرير الفلسطينية  وحاولت احتكار التمثيل الفلسطيني  وأن تكون العنوان الأوحد للشعب والقضية ونجحت في استقطاب الكثير من القوى السياسية والاتحادات والنقابات والجاليات الفلسطينية،  كما نجحت في اعتماد رؤية وطنية كفاحية وسياسية لتحرير فلسطين، بدا أن المنظمة سرعان ما وقعت في فخ الاستقطاب العربي والضغط الإقليمي والدولي، لانتهاج سياسات بعيدة عن الكفاح المسلح، وتعرضت حينذاك إلى صراعات داخلية أفضت إلى انقسامات عميقة في صفوفها وانشقاق عدد من الأعضاء، ثم تعرضت إلى ضغوط سياسية هائلة بعد خروجها من بيروت عام 1982 دفعتها إلى إحداث تغييرات جذرية في رؤيتها والقبول بالحلول السياسية كمرجعية لمعالجة الصراع، وجاء اتفاق اوسلو كي يحرف المنظمة بعيدا عن مسارها الكفاحي الثوري بشكل حاد ويدخلها في دوامة الطروحات السياسية، ويعمق الخلافات بين أعضاء المنظمة أنفسهم، وقرر بعضهم الخروج من اللجنة التنفيذية، وبعضهم عارض بقوة توقيعها على اتفاق أوسلو، ومن ثم تحولت المنظمة إلى كيان فارغ فاقد للصلاحيات غير مؤثر على مسار القضية الفلسطينية، واستولت السلطة على كل مقدراتها، وتركزت كل النشاطات الوطنية في يدها، كون الرئيس أصبح يجمع ما بين قيادة فتح وقيادة السلطة وقيادة منظمة التحرير. فضلا عن أن المنظمة لم تنجح في استقطاب التيار الإسلامي خاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي مما جعلهما يشكلان منافسا قويا لمنظمة التحرير.


اليوم تفرقت القيادة الفلسطينية ما بين قيادة المنظمة وقيادة السلطة وقيادة الفصائل، وظهر الخلاف حادا بين هذه المرتكزات الثلاث، وترجم ذلك في مقاطعة العديد من الفصائل لاجتماعات المجلسين الوطني والمركزي، وفي الاعتراض الشديد على المسار السياسي للرئيس أبو مازن وفي كيفية معالجة الكثير من القضايا ذات البعد السياسي أو السلطوي.


إن المشكلة الكبيرة والشائكة التي منعت الفلسطينيين من تحقيق إنجازات ملموسة هو غياب قيادة وطنية موحدة وقادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني وطرح قضيته بقوة في المحافل الدولية والدفاع عن حقوقه بكل الوسائل الممكنة. إن ارتهان القيادة الحالية للحل السلمي وإسقاطها لخيار المقاومة ضد الاحتلال شجع "إسرائيل" على المضي قدما في إجراءاتها الاحتلالية وفي عدم الاكتراث بمطالب الفلسطينيين، كما أن اعترافها بـ"إسرائيل" كدولة لها حق في الوجود والعيش بأمن شجع دولا عربية على فتح قنوات تعاون رسمية مها وتطبيع علاقاتها ومن ثم إلغاء حالة الحرب معها، كما أن المجتمع الدولي ساهم بقوة في إضعاف القيادة الفلسطينية من خلال السكوت على جرائم "إسرائيل"، وفي محاولة إرضائها بمواقف وتصريحات دبلوماسية عامة وغير مجدية، وجرى تغليب المساعدات الاقتصادية والإنسانية للسلطة على التوجهات السياسية التي أقرتها الكثير من القرارات الدولية التي اعتمدت في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.


(4) غياب الرؤية


إحدى الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها القيادة الفلسطينية أنها لم تتبن استراتيجية ثابتة من أجل الوصول إلى أهدافهم، وتنقلت ما بين الرؤى والخيارات والوسائل تحت الكثير من الضغوط أو بسبب عدم قدرتها على ترتيب أولوياتها وتحديد مراحلها. انتقلت القيادة الفلسطينية من التمسك بفلسطين بكامل ترابها إلى الرضا بدولة في حدود عام 67  ومن تبني الكفاح المسلح إلى الارتهان بالخيارات السلمية، ومن اعتبار الدول العربية شريكا رئيسا في مواجهة الاحتلال إلى الاتكال على الإدارة الامريكية والاتحاد الأوروبي في معالجة صراعهم مع "إسرائيل".


اقرأ أيضا: أيها الناخبون: تحسّسوا “مآثر” مرشحيكم جيداً.. سيرتهم حقّ لكم

هذا التنقل والإرباك في المسار السياسي أضعف القيادة الفلسطينية عن السير في مسار ثابت، وفرض عليها أن تتحرك في مسارات غير مجدية، مثل اتفاق أوسلو الذي زين للقيادة الفلسطينية أنه سيمنحها الفرصة للتخلص من الاحتلال وبناء الدولة المستقلة، لكن سرعان ما تبين أنه كان مصيدة كبيرة منحت الاحتلال الإسرائيلي فرصة ذهبية لاستكمال كافة مخططاته تحت زيف الادعاء بوجود عملية سلام، وفقد الفلسطينيون الكثير من الوعود التي وعدهم بها المجتمع الدولي لمساندتهم في تحقيق تطلعاتهم.


 (5)  أين تتجه القاطرة


بسبب فقدان العنصرين الرئيسين: القيادة والرؤية، يحتار الفلسطينيون أين ترسي بهم القاطرة وأين ستحط مسيرتهم الطويلة.


في الآونة الأخيرة، وبعد الانقسام الخطير عام 2007 على المستوى السياسي والجغرافي، قرر الفلسطينيون إن يتجهوا إلى الحوارات الشاملة لترتيب بيتهم الداخلي غير أنهم أخفقوا في الخروج بنتائج عملية، ثم توجهوا إلى المصالحة الوطنية والتي سرقت من عمرهم أكثر من 15 عاما غير أنهم لم يتجاوزوا عقبة الانقسام، ثم قرروا الانعطاف نحو الانتخابات لعلها تشكل لهم مخرجا من حقل الألغام الذي وقعوا فيه، لكن لا توجد ضمانات حقيقية تقول بأن الانتخابات ستكون المخرج السحري.


إذن أين سيتجه الفلسطينيون؟ من الواضح أن حالة التيه والإرباك تسيطر على المشهد الفلسطيني وتجعل من الصعوبة الإجابة على هذا السؤال في ظل الحالة الضبابية الهلامية التي تسيطر على الواقع العربي والإقليمي والدولي. هناك من يتوقع أن تستمر الحالة الرمادية إلى أمد بعيد مع جمود المسيرة السياسية واستمرار "إسرائيل" في فرض الوقائع الاحتلالية على الأرض وفي ظل انشغال الفلسطينيين في إعادة ترتيب أوضاعهم السياسية المعقدة.


ليس هناك ما يشير إلى أن إدارة بايدن ستقوم بدور فاعل في تحريك عملية السلام أو أن تمارس  قليلا من الضغط على "إسرائيل" للتراجع عن سياساتها أو الدفع في تقديم الدعم السياسي  للفلسطينيين، كما أن هناك من يرى أن الاتحاد الاوربي لن يتقدم خطوة في اتجاه تفعيل دوره السياسي في منطقة الشرق الأوسط.


وجاءت الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة والتي عززت المعسكر اليميني المتطرف لتثبت مرة بعد أخرى أن "إسرائيل" لن تكون مستعدة لأي عملية سلام مع الفلسطينيين، وأنها ستنهج نفس النهج الذي اختطته منذ عقود والقائم على تعزيز وجودها الاحتلالي في الأراضي الفلسطينية ورفع الاعتراف بأي من حقوقهم.


هناك من يرى أن الوضع الفلسطيني قد ينفجر في أي لحظة تحت وطأة الاخفاق والفشل الداخلي  والإحساس بمزيد من الاضطهاد الإسرائيلي، وقد يترجم ذلك في صورة انتفاضة جديدة قد تتحول إلى ثورة شعبية تمتد أبعادها إلى مستويات غير مسبوقة، وهناك من يرى أنه إذا فشلت عملية السلام فإن المقاومة المسلحة ستكون الخيار الأفضل في إجبار "إسرائيل" على تقديم تنازلات.


يتوقف تحديد الفلسطينيين لخياراتهم وتوجهاتهم المستقبلية على العديد من العوامل، يقف على رأسها قدرتهم على ترتيب بيتهم الداخلي خاصة الاتفاق على قيادة تقود المشروع الوطني وتغير البيئة العربية والدولية من حولهم.


هذه العوامل ربما تحتاج إلى سنوات وسنوات كي تجد طريقها إلى الفعل والتأثير، ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة، والحالة الفلسطينية -كما يقولون- حبلى بالمفاجآت.


الفرصة قائمة لدى الفلسطينيين أن يغيروا وجه التاريخ إذا ما أرادوا خاصة أنهم يمتلكون الكثير من المقدرات والطاقات التي تؤهلهم للعب دور سياسي أكبر وفي فرض وقائع تقربهم من لحظة الحقيقة التي طال انتظارها.

مواضيع ذات صلة

atyaf logo