زيت غزة

محمود جودة
محمود جودة

بقلم: محمود جودة

عام 1977 صدرت مجموعة قصصية مشتركة بعنوان "27 قصة من الوطن المُحتل" تضمنت قصصًا لأربعة عشر كاتب فلسطيني، سبعة منهم من قطاع غزة، حيث تُرجمت تلك القصص إلى العديد من اللغات، وسافرت في الحقائب في أغلب مطارات العالم لتحكي قصة الاحتلال الذي كان يقتل الناس ويصادر أحلامهم ويطارد الكتابة ويمنع أهلها من رواية الحقيقة، وقتها قيل في غزة إنها تُصدّر البرتقال والقصة القصيرة.

تلك أيام خلت، فغزة الآن تستورد البرتقال بعدما اختفت منها حقول الحمضيات، بسبب الزيادة الهائلة في عدد السكان وشح المياه، وأسنان جرافات الاحتلال، وأصبحت تُصدّر أصحاب القصص أنفسهم، لتبقى قصصهم تحوم في منازلهم، وحواريهم يتناقلها الأهل والأصدقاء هؤلاء الذين ينتظرون عودة المُهاجر، ولكن المُهاجر لا يعود إلا في تابوت، أو بخفيَّ حُنين، لأن المُهاجر غادر بعدما امتلأ بكل أسباب الرحيل!

غزة الجغرافيا التي لا تتجاوز 365 كيلو مترًا مربعًا محبوسة داخل أسوار من الأسلاك الشائكة والبحر، منغلقة على أفهام مغلوطة، وتجارب ما زالت تكرر أنفسها منذ ما يزيد عن سبعين عامًا، حتى أصبحت بيئة لا يمكن أن يعيش فيها الناس بالصورة الطبيعية، بل حتى الأقل من الطبيعية، بعد أن تم تصنيفها حسب تقديرات الأمم المتحدة بأنها منطقة غير قابلة للحياة بحلول عام 2020، بعدما استفحلت فيها البطالة والفقر حتى وصلت نسبته إلى ما يزيد عن  75% حسب ما أعلنته وزارة التنمية الاجتماعية في غزة لعام 2019.

كل ذلك حصل، وما زال الأخوة يتصارعون على الفُتات، ويتحاربون بالمزايدة والشعارات، والاحتلال يطلق ضحكته الساخرة، تلك الضحكة التي تحوّلت إلى نارٍ أكلت قلوب الناس فدفعتهم إلى الهجرة، فمنهم من ركب البحر فأصبح طعامًا للسمك، ومنهم من فُقد ومنهم من يجلس الآن على قارعة الطريق يبكي الظروف وحقه المسلوب من العدو ومن الصديق، ذلك العدو الذي تفاخر بالإعلان عن عدد مَن هاجروا من قطاع غزة في حلقة تلفزيونية وقال أن عددهم يزيد عن ثلاثين ألفًا ما بين عامي 2018 و 2020 بينما يشير بعض المختصين في غزة أن النسبة تزيد عن سبعين ألف ما بين عام 2014 وبدايات عام 2020، هذا دون أن تكلف الجهات الحكومية الحاكمة في غزة نفسها بإعلان أي نسبة لأعداد من هاجروا.

سنصبح نحن يا هود التاريخ، وسنأوي للصحراء بلا مأوى

تحققت نبوءتك يا مظفر النواب، وها نحن نتشتت في كل العواصم، والقرى بلا مأوى، وصار لنا في كل بلاد جالية ومقبرة، بعدما هاجرت عشرات الآلاف من أصحاب العقول والتخصصات العلمية الهامة والأطباء وغيرهم وهم يحملون ذاكرة لا تنضب عن الظلم الذي دفعهم للغربة وترك البلاد التي تمنوا يومًا أن يبنوها.

قديمًا كانت بيوت غزة لا تخلو من شهيد أو أسير أو جريح، اليوم تم إضافة مُهاجر إلى تلك القائمة التي ما زالت تثقل كاهل الناس حتى كادت تفتك بهم، ولا أمل في صيف قريب يُريح القلوب من برد اللجوء، ويبدو أن الحال مريح لمن يتمسكون بزمام الوهم الذي يسمونه حكم وسلطة، وتناسوا أن القناديل الفارغة بحاجة إلى الزيت كي تضيء، وزيت غزة يتسرب من شقوقها الكثيرة حتى كادت أن تفقده.

لذا يا أخوتي في الطلق الأول والخوف الأول والرعشة الأولى، يا أصحاب الوجوه المخطوفة والأعمار المهدورة، لا أتحامل عليكم، ولا أطالبكم بشيء، وأعلم أنكم في أوضاع صعبة تتمنوا لو أنكم لم تخرجوا من غزة، لكنها أمنية سرعان ما تستيقظون منها بعدما تستمعون لشكوانا نحن من لم يهاجر إلى الآن، رغم أننا حدثنا أنفسهم بالهجرة عشرات المرات، وها أنا أطمئنكم أن بيوتكم على ما هي عليه باردةٌ جدًا في الشتاء بلا كهرباء، كل شيء في مطرحه ملابسكم التي تركتموها برائحتها، صوركم المصلوبة على الجدران، ذكرياتكم مع الأصدقاء، الشوارع التي كثيرًا ما فتحت أحضانها في الليل لعبث خطواتكم، لعناتكم ما زالت طازجة يُسمَع صداها في الأركان،  كل شيء على ما هو عليه، فقط قلوب أمهاتكم وزوجاتكم تجمّدت من الشوق والخوف والانتظار .. والسلام عليكم يا زيت غزة، يا صوتها المخنوق، وعنقها المشنوق ..  السلام عليكم ورحمة الله وأمانه.

المصدر : زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo