بداية
على مدى ثلاثة عقود، ظلت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تتسم بطابع استثنائي لا نظير له في السياسة الخارجية الأمريكية. فما يجمع البلدين ليس مجرد "علاقة خاصة" كتلك التي تربط واشنطن بلندن، بل "علاقة استثنائية" تحظى فيها إسرائيل بمعاملة لا يحظى بها أي حليف آخر. لكن حرب غزة كشفت بوضوح أن الحفاظ على هذا النوع من العلاقات يأتي بتكاليف باهظة على الطرفين، وبشكل أكثر فداحة على الفلسطينيين.
يستعرض هذا التحليل طبيعة العلاقة الاستثنائية وتطورها التاريخي، ويرصد تجلياتها خلال حرب غزة، ويحلل التكاليف التي تكبدتها جميع الأطراف
من الدعم المشروط إلى الشيك على بياض
لم تكن العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية استثنائية دائماً بصيغتها الحالية. فقبل عهد الرئيس بيل كلينتون، لم يتردد الرؤساء الأمريكيون في معارضة الحكومة الإسرائيلية علناً أو فرض عواقب لدفعها نحو تغيير سلوكها. خلال حرب السويس (1956)، وحرب أكتوبر (1973)، والحروب الإسرائيلية في لبنان خلال السبعينيات والثمانينيات، والانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، هدد الرؤساء الأمريكيون بفرض عقوبات أو قطع شحنات الأسلحة.
نقطة التحول: عصر كلينتون
بعد انتهاء الحرب الباردة والانتصار الحاسم في حرب الخليج، رأت إدارة كلينتون أن الظروف باتت مواتية للتوصل إلى تسوية شاملة في الشرق الأوسط. قدمت الإدارة دعماً سياسياً ومادياً غير مشروط تقريباً لإسرائيل، انطلاقاً من اعتقاد بأن إسرائيل القوية المدعومة بصورة ثابتة وغير محدودة ستكون أكثر استعداداً للمخاطرة من أجل السلام.
استند هذا النهج إلى أربعة افتراضات أساسية:
- تطابق المصالح: المصالح الأمريكية والإسرائيلية متطابقة إلى حد كبير
- الفهم الأفضل: إسرائيل تفهم مصالحها والتهديدات التي تواجهها أفضل من الآخرين
- السرية في الخلافات: من الأفضل حل الخلافات سراً لأن ظهور تباعد علني يشجع الأعداء
- الاعتبار المتبادل: عند الاختبار الحقيقي، ستراعي إسرائيل المخاوف الأمريكية حفاظاً على العلاقة
الدعم العسكري غير المشروط
تقدم الولايات المتحدة كميات هائلة من المساعدات العسكرية دون شروط. مذكرة التفاهم لعام 2016 تعهدت بتقديم 3.8 مليار دولار سنوياً (أكثر من 10 ملايين دولار يومياً من أموال دافعي الضرائب)، وغالباً ما يضيف الكونغرس مبالغ إضافية بانتظام.
الحماية الدبلوماسية الكاملة
من المتوقع من الولايات المتحدة ألا تكتفي بالامتناع عن انتقاد إسرائيل علناً، بل أيضاً أن تدعم موقفها في المؤسسات الدولية، خصوصاً من خلال استخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التي تعترض عليها إسرائيل، سواء انسجمت هذه القرارات مع السياسة الأمريكية أم لا.
الإعفاء من القوانين الأمريكية
نادراً ما تخضع إسرائيل لقوانين وسياسات أمريكية معينة، ولا سيما القيود القانونية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان التي تنطبق على جميع الجهات المتلقية للمساعدات الأمريكية، بما في ذلك "قوانين ليهي".
التدخل في السياسة الداخلية
في الوقت الذي يمتنع فيه الشركاء الآخرون عن إظهار تفضيلاتهم العلنية لحزب سياسي أمريكي، يفعل قادة إسرائيل ذلك دون أن يواجهوا عواقب جدية.
المخاطر الأخلاقية للعلاقة الاستثنائية
على الجانب الإسرائيلي
أدى الدعم غير المشروط حتماً إلى مخاطر أخلاقية. إسرائيل ليس لديها سبب يدفعها إلى مراعاة المخاوف والمصالح الأمريكية لأن تجاهلها لا يكلفها شيئاً. النتائج المباشرة تشمل:
- الزيادة المستمرة في المستوطنات: استمرار التوسع الاستيطاني غير القانوني وعنف المستوطنين في الضفة الغربية
- الأفعال المتهورة: عمليات عسكرية غير ضرورية في أنحاء الشرق الأوسط
- زيادة المخاطر الوجودية: السياسات التي تهدد أمن إسرائيل نفسه على المدى البعيد
على الجانب الأمريكي
تصبح الولايات المتحدة متورطة في أفعال إسرائيل، مما قد يعرض:
- القوات الأمريكية لهجوم انتقامي مباشر
- المصالح الأمريكية في المنطقة للخطر
- المكانة الدولية لواشنطن للتآكل
نتنياهو مقابل رابين: نموذجان متناقضان
رابين: شريك متجاوب (1992-1995)
أدرك رابين خلال ولايته الثانية أن التعامل بجفاء مع واشنطن قد لا يُلحق ضرراً فورياً بالشراكة، لكنه كان يخشى الأذى البعيد المدى. أدرك أن مخاوف الولايات المتحدة صادقة ومتجذرة في هدف مشترك هو تحقيق السلام. توقيعه على اتفاقات أوسلو عام 1993 حظي بدعم أكثر من 60% من الجمهور الإسرائيلي.
نتنياهو: الاستغلال الممنهج
على النقيض، ينظر نتنياهو إلى العلاقة الاستثنائية على أنها شيء يمكن استغلاله وليس شبكة أمان. يتعامل مع وعد "عدم إظهار أي خلاف للعلن" على أنه التزام أحادي الاتجاه:
- التدخل العلني: انتقد إدارة بايدن علناً، وتحدث أمام الكونغرس 2015 لمهاجمة الاتفاق النووي مع إيران
- معارضة حل الدولتين: موقف مدعوم من أغلبية إسرائيلية انحرفت بقوة نحو اليمين (21% فقط يعتقدون بإمكانية التعايش السلمي مع دولة فلسطينية)
- التحالف مع المتطرفين: إشراك حزبين من اليمين المتطرف يقودهما سموتريتش وبن غفير
حرب غزة: اختبار العلاقة الاستثنائية
إدارة بايدن: الضغط المحدود والنتائج الباهتة
- لم تسعَ الإدارة إلى تفاهم رسمي لتحديد نوع المساعدات والشروط المرافقة والأهداف العسكرية
- أعربت عن مخاوف سرية بشأن القصف وسقوط الضحايا المدنيين، لكن التعليقات العلنية تجنبت إدانة إسرائيل
- تعليق فعلي لتطبيق "قوانين ليهي" على رغم عدم وجود استثناءات قانونية
- لم توقف بايدن بعض الأسلحة إلا في مايو 2024 رداً على حملة رفح، وكان الضغط ضئيلاً ومتأخراً
نجاح نسبي في المساعدات الإنسانية
استخدمت الإدارة نفوذها مرتين (أبريل وسبتمبر 2024) بتهديد خفض الدعم العسكري، وامتثلت إسرائيل إلى حد كبير لكن مؤقتاً. لكن الإدارة اختارت عدم تفعيل المادة "620-آي" من قانون المساعدات الخارجية التي تحظر الدعم لدول تمنع المساعدات الإنسانية.
نجاح في منع التصعيد الإقليمي
- حشد تحالف دفاعي أحبط الهجمات الإيرانية في أبريل وأكتوبر 2024
- توضيح عدم المشاركة في عمليات هجومية أبقى رد إسرائيل محدوداً
- لكن صعوبة في الحد من عمليات إسرائيلية مشكوك في جدواها
إدارة ترمب: بين التفويض الكامل والضغط الحاسم
المرحلة الأولى: التفويض شبه الكامل
- بداية واعدة بالمساعدة في وقف إطلاق النار في يناير 2025
- لكن الأشهر التالية شهدت تفويضاً عملياً للسياسة الأمريكية لإسرائيل:
- عدم بذل جهد لتمديد الهدنة بعد المرحلة الأولى
- تأييد كسر وقف إطلاق النار في مارس
- التزام الصمت أثناء فرض حصار شامل لأكثر من شهرين أدى لمجاعة
- آلية توزيع مساعدات "غير فعالة" حتى وفق اعتراف نتنياهو نفسه
- احتجاجات ضعيفة على العمليات في لبنان وسوريا
- مشاركة في ضربات على المواقع النووية الإيرانية
المرحلة الثانية: الضغط الحاسم
نقطة التحول جاءت بعد محاولة اغتيال قادة حماس في قطر، الشريكة الوثيقة للولايات المتحدة:
- حملة ضغط شاملة مع دول عربية وإسلامية
- ربط اجتماع المكتب البيضاوي بقبول نتنياهو "خطة السلام"
- إجبار نتنياهو على الاعتذار لقطر وتوقيع وقف إطلاق النار على الهواء
- "ليس لديه خيار آخر" - تصريح ترمب
الدرس المستفاد: استدعى الوصول إلى وقف إطلاق النار الخروج عن قواعد العلاقة الاستثنائية.
التكاليف الباهظة للعلاقة الاستثنائية
على الفلسطينيين: الخسارة الأكبر
عند دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في أكتوبر 2025:
- 90% من السكان نزحوا داخلياً
- أكثر من 600 ألف فلسطيني يواجهون المجاعة أو سوء التغذية، بينهم 132 ألف طفل
- 78% من مباني غزة تضررت أو دُمرت
- ما يقارب 20 ألف قتيل إضافي بعد انهيار وقف إطلاق النار في يناير 2025
على إسرائيل: مكاسب قصيرة وأخطار بعيدة
العزلة الدولية المتزايدة
- هولندا وإسبانيا وسويسرا: أعلنت أنها ستعتقل نتنياهو
- ألمانيا والمملكة المتحدة: بدأتا تقييد مبيعات الأسلحة
- المحكمة الجنائية الدولية: مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين
تآكل الدعم الأمريكي
وفقاً لاستطلاع "نيويورك تايمز" و"جامعة سينا" (سبتمبر 2025):
- أكثر من نصف الأمريكيين يعارضون تقديم دعم إضافي لإسرائيل
- 7 من كل 10 تحت سن 30 يعارضون الدعم
- خُمسا الأمريكيين وثلثا من هم دون 30 يعتقدون أن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً
- الأمريكيون تحت 45 سنة أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين من إسرائيل
تهديدات استراتيجية طويلة المدى
- إيران: قد يزيد اهتمامها بامتلاك سلاح نووي
- غزة: احتلال مكلف أو دولة فاشلة على الحدود
- لبنان: نتائج أقل تفاؤلاً محتملة مع حزب الله
- الديمقراطية الداخلية: تهديد التعديل القضائي
- الديموغرافيا: نمو الحريديم يقوض المشاركة الاقتصادية والعسكرية
- الضفة الغربية: خطر انتفاضة جديدة واستحالة الدولة الفلسطينية
- التطبيع: رياح معاكسة ضد التطبيع مع الدول العربية والإسلامية
على الولايات المتحدة: تراجع المكانة وضياع الفرص
تآكل المكانة الدولية
- استغلال صيني وروسي للموقف الأمريكي
- الصين تعزز صورتها كجهة دولية "مسؤولة"
- روسيا تصرف الانتباه عن جرائمها في أوكرانيا
الفرص الضائعة
- كل حاملة طائرات تُنشر لحماية إسرائيل غير متاحة للمهام في آسيا والمحيط الهادئ
- تآكل النفوذ في المنطقة
- فقدان المصداقية مع الشركاء (مثال قطر)
الاستقطاب الداخلي
زيادة حدة الاستقطاب السياسي وإشعال معاداة السامية ورهاب الإسلام داخل الولايات المتحدة.
حسابات الربح والخسارة
لقد قوضت عقود من الدعم الأمريكي غير المشروط السلام والاستقرار في الشرق الأوسط بدلاً من تعزيزهما. كان الفلسطينيون الخاسر الأكبر، فيما دفعت الولايات المتحدة وإسرائيل ثمناً باهظاً أيضاً.
الخيارات الثلاثة أمام واشنطن
- الانتقال المدروس: إعادة هيكلة العلاقة بعناية نحو نموذج طبيعي
- الانهيار غير المخطط: نتيجة تآكل الدعم الشعبي أو خطوة إسرائيلية متهورة
- الاستمرار المدمر: تفاقم التكاليف على جميع الأطراف
الفوائد المتوقعة للعلاقة الطبيعية
للولايات المتحدة:
- استعادة المصداقية الدولية
- حماية المصالح الأمريكية بفعالية
- تسهيل الدفاع عن العلاقة
لإسرائيل
- تحالف مستدام مع الولايات المتحدة
- تقليل العزلة الدولية
- حماية أفضل للديمقراطية والقيم اليهودية
- أمن حقيقي طويل المدى
للفلسطينيين:
- فرصة حقيقية لدولة مستقلة
- إنهاء معاناة الاحتلال
- تحسين الظروف المعيشية
- مستقبل كريم للأجيال القادمة
التوقيت الحرج
طالما أن ترمب في المكتب البيضاوي ونتنياهو وائتلافه المتطرف يقودون العلاقة، فمن غير المرجح التزام كامل بنهج جديد متماسك ومؤسسي. لكن لم يفت الأوان للبدء في:
- تقييم الأخطاء التي حدثت
- مناقشة كيفية الإصلاح
- وضع أسس للمرحلة المقبلة
إذا ضاعت الفرصة المقبلة لإعادة ضبط العلاقة المتزايدة هشاشة، سيكون ذلك على حساب الأمريكيين والإسرائيليين والفلسطينيين على السواء.
المطلوب
الانتقال من علاقة استثنائية تضر الطرفين إلى علاقة طبيعية يمكن أن تشكل أساساً لتحالف مستدام ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة إستراتيجية وأخلاقية. العلاقة الطبيعية لا تعني التخلي عن إسرائيل، بل تعني إنقاذ العلاقة من نفسها، وحماية المصالح الحقيقية لجميع الأطراف، وفتح الباب أمام سلام عادل ومستدام في الشرق الأوسط.
