بالرغم من الدعم الواسع الذي حصلت عليه إسرائيل عقب هجوم 7 أكتوبر 2023 – خاصة من الولايات المتحدة وعدد من أبرز الدول الغربية – فإن هذا الدعم بدأ يتآكل تدريجيًا مع انكشاف حجم المذابح في غزة، وتصاعد الاستيطان في الضفة الغربية، وصدور اتهامات دولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية. ويكتسب هذا التحول أهمية خاصة لأنه يحدث في القاعدة التاريخية لشرعية إسرائيل (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية)، لا في العالم العربي أو الإفريقي.
الورقة تطرح قراءة تحليلية لمسار تراجع مكانة إسرائيل، عبر مفهوم "الدولة المنبوذة"، مع استشراف السيناريوهات المحتملة لمدى ترسخ هذا المسار.
أولًا: مفهوم الدولة المنبوذة
- الدولة المنبوذة ليست توصيفًا قانونيًا بل وسم سياسي–خطابي يتكوّن تدريجيًا نتيجة انتهاكات جسيمة للقانون الدولي (الإبادة الجماعية، العدوان، الفصل العنصري).
- التحوّل إلى دولة منبوذة يتطلب تراكم الانتهاكات ووجود إجماع دولي، خاصة من القوى الغربية الكبرى، التي تمتلك أدوات الضغط والعقوبات.
- حالات سابقة مثل جنوب إفريقيا (الأبارتهايد) وليبيا (لوكربي) توضح أن الانخراط الغربي شرط حاسم لتحويل الوصم إلى واقع مؤسسي.
ثانيًا: إسرائيل بين المقاطعة والنبذ (1948–2023)
- منذ النكبة عام 1948، تموضعت إسرائيل في المنظومة الغربية، وحافظت على حصانة دولية رغم موجات النبذ العربي والإفريقي.
- ذروة العزلة جاءت بعد حرب 1973 وحظر النفط وقطع علاقات إفريقية وأممية. لكن عدم انخراط الغرب أبقى إسرائيل في الأسواق والمنظمات الدولية.
- اتفاقيات أوسلو (1993) أعادت دمج إسرائيل في النظام الدولي، وتوسعت العلاقات مع الصين والهند والفاتيكان، وأُلغي قرار الأمم المتحدة الذي وصف الصهيونية بالعنصرية.
- العقدان الماضيان شهدا توازنًا بين نزعتين:
- نزعة المقاطعة (BDS) وتصاعد الخطاب الحقوقي.
- نزعة التطبيع والانفتاح الاقتصادي والتكنولوجي على الغرب والعالم العربي.
ثالثًا: حرب غزة محطة فارقة (2023–2025)
- الأمم المتحدة والمحاكم الدولية:
- دعوى جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية (2024).
- مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت (2024).
- إدراج إسرائيل في "قائمة العار" للأمم المتحدة (2024).
- الولايات المتحدة:
- تأييد العمليات الإسرائيلية انخفض إلى 32% فقط في استطلاعات غالوب (2025).
- غالبية الديمقراطيين والشباب الأميركي يعارضون الحرب.
- استقالات لمسؤولين في وزارات أميركية احتجاجًا على التواطؤ.
- أوروبا الغربية:
- إطلاق مراجعة لاتفاقية الشراكة الأوروبية–الإسرائيلية.
- وقف صادرات السلاح من ألمانيا وهولندا وإسبانيا.
- انسحابات لصناديق سيادية أوروبية من شركات إسرائيلية.
- الإعلام:
- انتقال مصطلح "الإبادة" إلى التيار السائد (FT، NYT، The Economist).
- تحذيرات كتّاب بارزين من تحول إسرائيل إلى "دولة منبوذة".
- الدبلوماسية:
- قطع علاقات بوليفيا، كولومبيا، بيليز.
- تركيا أوقفت التجارة (7 مليارات $ سنويًا) وأغلقت مجالها الجوي.
- الاعتراف بفلسطين:
- اعترافات متتالية من إسبانيا، إيرلندا، النرويج، سلوفينيا، أرمينيا (2024).
- انضمام بريطانيا، كندا، أستراليا، فرنسا، بلجيكا (2025).
- الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرّت "إعلان نيويورك" (142 دولة لصالح فلسطين).
رابعًا: السيناريوهات المحتملة
- انقسام داخلي إسرائيلي:
- التيار الليبرالي–العلماني قد يضغط لتقديم تنازلات للحفاظ على الشرعية.
- اليمين الشعبوي قد يعمّق العزلة ويتبنى خطاب "شعب يسكن وحيدًا".
- انقسام داخل الغرب:
- اليمين الشعبوي (النمسا، المجر، فرنسا اليمينية) يميل لدعم إسرائيل.
- اليسار والوسط التقدمي (إسبانيا، إيرلندا، النرويج) يدفع نحو الاعتراف بفلسطين ووقف الحرب.
- اصطفاف عالمي (شمال/جنوب):
- تنامي تحالفات الجنوب (BRICS، G77، مجموعة لاهاي) قد يرسّخ عزل إسرائيل.
- يتوقف على بناء مؤسسات دولية ضاغطة وتوحيد رأس المال السياسي للجنوب.
- تأثير التطبيع العربي:
- استمرار اتفاقيات أبراهام يقلل من أثر العزلة.
- لكن تصاعد الضغط الأممي قد يُضعف شرعية التطبيع سياسيًا وشعبيًا.
الخلاصة
تواجه إسرائيل اليوم تحوّلًا نوعيًا في صورتها الدولية لم تشهده منذ السبعينيات، لكنه أكثر خطورة لأنه يطال الغرب نفسه، مركز شرعيتها التاريخية. إذا استمر هذا التآكل، فقد تجد إسرائيل نفسها تسلك مسار "الدولة المنبوذة"، بما يحمله من انعكاسات جوهرية على أمنها واقتصادها وعلاقاتها الدولية.