بين الحسابات والمسؤولية

من بلفور إلى ستارمر: لماذا اعترفت بريطانيا بدولة فلسطين

رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر

يطرح قرار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر المقبل، شريطة عدم موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار في غزة، تساؤلات عميقة حول التوقيت والدوافع. وكما يوضح دونالد ماكنتاير، فإن السؤال الحقيقي ليس "لماذا؟" بل "لماذا استغرق الأمر كل هذا الوقت؟"، خاصة أن حل الدولتين ظل سياسة متبعة لدى الحكومات البريطانية المتعاقبة لعقود.

تحمل بريطانيا إرثاً تاريخياً ثقيلاً في القضية الفلسطينية، بدءاً من "إعلان بلفور" عام 1917 الذي تعهد بدعم إنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي"، والذي يراه كثير من الفلسطينيين السبب الجذري لمعاناتهم. ويشير ماكنتاير إلى أن هذا الإعلان، رغم كونه مناورة دبلوماسية مبهمة، نص على عدم المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية في فلسطين - وهو الشرط الذي لم يتحقق بعد أكثر من قرن.

الاتفاق الأوروبي والضغوط الدولية

يأتي قرار ستارمر في إطار تحرك أوروبي أوسع، حيث سبقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في التعهد بالسعي للاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويلفت ماكنتاير إلى أن ماكرون تأثر بشهادات ناجين فلسطينيين التقاهم خلال زيارته لمصر، مما يعكس تصاعد الغضب الدولي من حجم المجازر والمجاعة في غزة.

وفقاً لما يذكره ديفيد مادوكس، فإن هذا التدخل جاء نتيجة لمحادثات مجموعة "إي 3" الجديدة التي تضم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والتي يراها البعض اعترافاً بأن الاتحاد الأوروبي فقد بعض نفوذه الدبلوماسي نتيجة خروج بريطانيا منه.

الدور الأميركي والموافقة الضمنية

يكشف مادوكس عن تطور مهم في الموقف الأميركي، حيث منح الرئيس دونالد ترمب فعلياً الإذن للمملكة المتحدة بالخروج عن سياسة الولايات المتحدة، قائلاً إنه لا يرى مشكلة في احتمال اتخاذ ستارمر موقفاً حول قيام دولة فلسطينية. ويمثل هذا، وفق مادوكس، "انحرافاً كبيراً عن الدعم المطلق الذي قدمه ترمب سابقاً إلى الحكومة الإسرائيلية".

كما رفض ترمب علناً ادعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن "لا أحد يتضور جوعاً في غزة"، قائلاً إنه "لا يمكن تزييف صور الأطفال الجائعين".

تضارب التفسيرات: القوة أم الضعف؟

وجهة نظر الضعف السياسي

يقدم مادوكس تفسيراً مختلفاً لدوافع ستارمر، معتبراً أن القرار نابع من الضعف لا من القوة. ويحدد عدة عوامل دفعت ستارمر لهذا القرار:

  • التوترات داخل حكومته وحزب العمال عموماً
  • الضغوط السياسية المتزايدة من النقابات العمالية والنواب
  • ظهور حزب جيريمي كوربن الجديد كتهديد سياسي حقيقي
  • خسارة نواب عماليين مقاعدهم لمصلحة مرشحين مستقلين مؤيدين لغزة

ويخلص مادوكس إلى أن "ستارمر ظهر بدور قيادي وربما توصل إلى القرار الصحيح، لكن الأسباب التي دفعته إلى ذلك تتعلق بضعفه على الصعيد المحلي أكثر من قوته على الساحة الدولية".

وجهة نظر الإنجاز الدبلوماسي

في المقابل، يرى مادوكس في مقاله أن ستارمر حقق "انتصاراً دبلوماسياً جديداً" من خلال إقناع ترمب بتغيير موقفه تجاه الشرق الأوسط. ويشيد بمهارات ستارمر الدبلوماسية، معتبراً أنه "الوحيد الذي كان في مستطاعه إقناع الرئيس الأميركي بتغيير موقفه تجاه الشرق الأوسط".

التحديات والآفاق المستقبلية

محدودية التأثير العملي

يتفق الكتاب على أن الاعتراف بدولة فلسطين، رغم أهميته الرمزية، يظل محدود التأثير على الأرض. فكما يؤكد ماكنتاير، "الاعتراف بدولة فلسطين التي تضم الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، يظل مسألة نظرية في الأساس لأنه وسط غياب عملية سلام ناجحة، لا توجد دولة يمكن الاعتراف بها".

ويشير مادوكس إلى أن رد فعل نتنياهو الغاضب "يوحي بضعف نفوذ الحكومة البريطانية"، مؤكداً أن "هذا لن يغير سياسة إسرائيل قيد أنملة".

الأثر على المشهد الإقليمي

رغم التحديات، يرى ماكنتاير أن القرار قد يحدث فارقاً من خلال:

  • تعزيز موقف الذين يأملون في تغيير الحسابات السياسية في واشنطن
  • الاعتراف بالدور التاريخي والمسؤولية البريطانية في المنطقة
  • إرسال رسالة سياسية واضحة للقيادة الإسرائيلية

كما يلفت إلى أن انضمام فرنسا للسعودية في رعاية قمة الأمم المتحدة لإحياء مفاوضات حل الدولتين "يبعث برسالة سياسية واضحة"، ويذكر بتعهد الرياض منذ عام 2002 بالاعتراف بإسرائيل شريطة العودة لحدود ما قبل 1967.

الخلاصة

يكشف تحليل أراء الكتاب البريطانيين عن تعقيد المشهد السياسي حول قرار الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين. فبينما يركز ماكنتاير على السياق التاريخي والأهمية الرمزية للقرار، يقدم مادوكس رؤية مزدوجة تتراوح بين اعتبار القرار نتاج ضعف سياسي داخلي وإنجاز دبلوماسي على الساحة الدولية.

ما يجمع بين التحليلات هو الإقرار بأن القرار، رغم أهميته التاريخية والسياسية، يبقى محدود التأثير العملي في ظل استمرار الصراع وغياب إرادة سياسية حقيقية لحل الدولتين. ومع ذلك، قد يمثل خطوة نحو تغيير المعادلات الدولية وزيادة الضغط على إسرائيل للعودة لطاولة المفاوضات.

المصدر : متابعة-زوايا
atyaf logo