في خضمّ الدماء والدمار الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي أسفرت عن أكثر من 188 ألف قتيل وجريح، تشهد أروقة الاتحاد الأوروبي تحوّلاً جذرياً في التعامل مع إسرائيل. هذا التحوّل، الذي بدأ كهمسات في الممرات الدبلوماسية، تحوّل إلى إعلان صريح عن مراجعة شاملة لاتفاقية الشراكة الأوروبية-الإسرائيلية، في خطوة تحمل دلالات استراتيجية عميقة على مستقبل العلاقات الدولية في المنطقة.
الهل تحرّك الضمير الأوروبي
لم تعد الأرقام مجرد إحصائيات باردة، بل أصبحت مطرقة تدق على أبواب الضمير الأوروبي. فعندما تجاوزت أعداد الضحايا حاجز 188 ألف قتيل وجريح، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقف حرج أمام مؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية الدولية، مما دفعه إلى اتخاذ خطوات جدية لم يكن يتصوّرها من قبل.
من الصمت إلى المواجهة
تعكس تصريحات كايا كالاس، الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، تحوّلاً واضحاً في الخطاب الأوروبي. فوصفها للوضع في غزة بأنه "كارثي" وتشديدها على أن المساعدات المسموحة "لا تمثل إلا قطرة في بحر" يشير إلى إدراك أوروبي متزايد لحجم الكارثة الإنسانية.
من جهته، أكد أنطونيو كوستا، رئيس المجلس الأوروبي، على وجود "حاجة ماسة إلى تحرك فعلي على الأرض" و"رفع الحصار" عن غزة، في خطاب يحمل نبرة إلحاح لم تكن معهودة في التصريحات الأوروبية السابقة.
الخيارات الأوروبية
5 خيارات على الطاولة
يواجه الاتحاد الأوروبي خمس خيارات استراتيجية للتعامل مع ما يعتبره انتهاكاً إسرائيلياً لبنود حقوق الإنسان:
- التعليق الكلي أو الجزئي لاتفاقية الشراكة: خطوة ستكون لها تداعيات اقتصادية وسياسية عميقة
- فرض عقوبات على شخصيات إسرائيلية: استهداف وزراء وضباط عسكريين ومستوطنين
- تقييد العلاقات التجارية: ضربة مؤثرة لاقتصاد بلغت قيمة تبادله التجاري مع أوروبا 42.6 مليار يورو
- حظر تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية: خطوة ستؤثر على القدرات العسكرية الإسرائيلية
- تعليق المشاركة في البرامج العلمية: خاصة برنامج "هورايزن يوروب" للبحث والابتكار
الإجماع الأوروبي.. تحدي حاسم
يكمن التحدي الحقيقي في الحاجة إلى الإجماع الأوروبي لاتخاذ أي من هذه الخيارات. فبينما تقود فرنسا وإسبانيا وإيرلندا الدعوات لمراجعة الشراكة، تقف ألمانيا وإيطاليا في المعسكر المعارض، مما يخلق معضلة دبلوماسية معقدة.
خريطة الانقسام الأوربي
المؤيدون للمراجعة: التحرك الأخلاقي
تتزعم مجموعة من الدول الأوروبية، بقيادة فرنسا وإسبانيا وإيرلندا وهولندا، مبادرة مراجعة الشراكة مع إسرائيل. هذه المجموعة، التي تضم أيضاً فنلندا والبرتغال وسلوفينيا والسويد، تمثل 17 دولة من أصل 27 دولة عضو في الاتحاد، وتستند في موقفها إلى المادة الثانية من اتفاقية الشراكة التي تلزم الطرفين باحترام حقوق الإنسان.
المعارضون: الاعتبارات الاستراتيجية
تقف ألمانيا وإيطاليا في المقدمة من الدول المعارضة لمراجعة الشراكة، مدفوعة بالاعتبارات الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية. كما تلعب التشيك دوراً في عرقلة حتى العقوبات على المستوطنين الإسرائيليين، مما يعكس عمق التعقيدات السياسية داخل الاتحاد.
الوسطيون: البحث عن التوازن
تتبنى دول مثل هولندا وبلجيكا والسويد والنمسا موقفاً وسطياً، حيث تفضل استخدام التقرير الأوروبي كأداة ضغط على حكومة نتنياهو دون الوصول إلى تعليق الاتفاقية.
اللوبي الصهيوني والمصالح الاقتصادية
يواجه الاتحاد الأوروبي ضغوطاً متعددة المصادر، حيث يلعب اللوبي الصهيوني دوراً مؤثراً في المؤسسات الأوروبية، بينما تمثل المصالح الاقتصادية - خاصة مع تبادل تجاري يبلغ 42.6 مليار يورو - عاملاً مهماً في التردد الأوروبي.
التأثير الأمريكي والمزاج الدولي
يشكل الموقف الأمريكي، خاصة في عهد إدارة ترامب، عاملاً مؤثراً في تقييد الخيارات الأوروبية. كما أن التطورات الإقليمية، بما في ذلك التوتر مع إيران، تخلق ضغوطاً إضافية على صناع القرار الأوروبيين.
الغياب العربي عن التأثير
في ضوء هذه التحولات الهامة يلاحظ وجود "غياب عربي واضح عن التأثير على الدول الأعضاء في الاتحاد"، مما يترك المجال مفتوحاً للضغوط المؤثرة من الجانب الإسرائيلي والأمريكي.
تحوّل في البوصلة الأوروبية
تمثل هذه التطورات إعادة تعريف جذرية لمفهوم الشراكة الاستراتيجية، حيث تضع حقوق الإنسان كمعيار أساسي في تقييم العلاقات الدولية. هذا التحوّل قد يؤسس لنموذج جديد في التعامل مع القضايا الإنسانية على المستوى الدولي.
تأثير الرأي العام الأوروبي
تعكس هذه التحركات تأثير الرأي العام الأوروبي ومنظمات المجتمع المدني، التي لعبت دوراً محورياً في الضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر حزماً. هذا يشير إلى قوة الديمقراطية الأوروبية في تشكيل السياسة الخارجية.
التحدي أمام النظام الدولي
تطرح هذه التطورات تحدياً أمام النظام الدولي الراهن، حيث تسعى أوروبا إلى "إعادة إحياء مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة"، كما أشارت مفوضة الشؤون الإنسانية في الاتحاد الأوروبي.
الخلاصة والتوقعات المستقبلية
سيناريوهات محتملة
السيناريو الأول: تحقيق إجماع أوروبي حول تعليق جزئي للاتفاقية مع فرض عقوبات محدودة
السيناريو الثاني: فشل في تحقيق الإجماع مع الاكتفاء بإجراءات رمزية
السيناريو الثالث: تصعيد تدريجي للضغوط مع تطور الأوضاع الميدانية
الرسائل المستقبلية
بغض النظر عن النتائج النهائية، فإن مجرد طرح هذه الخيارات يرسل رسالة واضحة إلى إسرائيل والمجتمع الدولي بأن الاتحاد الأوروبي لن يقف مكتوف الأيدي أمام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأن عصر الحصانة المطلقة قد ولّى.
تشير هذه التطورات إلى أن غزة لم تغيّر الخريطة الجغرافية والديمغرافية للمنطقة فحسب، بل أعادت تشكيل البوصلة الأخلاقية والسياسية للاتحاد الأوروبي، في تحوّل قد يكون له تأثير عميق على مستقبل العلاقات الدولية في المنطقة والعالم.
الاقتباسات المباشرة:
• "الوضع الكارثي في القطاع" - كايا كالاس، الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي
• "حاجة ماسة إلى تحرك فعلي على الأرض ورفع الحصار عن غزة" - أنطونيو كوستا، رئيس المجلس الأوروبي
• "إنها خطوة مرحب بها، لكنها لا تمثل إلا قطرة في بحر" - كايا كالاس حول المساعدات المسموحة
• "أغلبية قوية من وزراء خارجية الاتحاد أعربوا عن تأييدهم لإعادة النظر في اتفاقية الشراكة مع إسرائيل" - كايا كالاس
• "هناك مؤسسات دولية كثيرة تذكرنا بأن للحروب قواعد يجب احترامها، وأبرزها أن المدنيين لا يجوز استهدافهم تحت أي ظرف" - حجة لحبيب، مفوضة الشؤون الإنسانية في الاتحاد الأوروبي
• "قطرة في محيط" - توم فليتشر، كبير مسؤولي الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة
• " أوروبا يمكنها أن تتبنى حالياً مواقف مناهضة لإسرائيل على الرغم من الانتهاكات والإبادة الجماعية التي يتم ارتكابها" - محمد رجائي بركات، خبير في الشؤون الأوروبية
• "يجب أن نتوصل إلى وقف لإطلاق النار... نعم، نعم، سنفعل" - ديفيد لامي، وزير الخارجية البريطاني