عند دخول الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثاني بدأت تل أبيب في الترويج إلى فكرة أن حركة حماس وحكومتها في القطاع فقدت السيطرة على غزة ولم يعد بإمكانها ممارسة نشاطها الإداري.
وكثفت إسرائيل من الدعاية إلى انهيار حماس خلال أشهر الحرب التسعة، وأن حكم الفصيل السياسي شارف على الانتهاء، وعززت ذلك بضربات عسكرية ضد كوادر الجهات الرسمية التي كانت تتولى إدارة العمل الحكومي في القطاع.
في هذا التقرير تحاول "زوايا" الإجابة على سؤال "هل فعلاً فقدت لجنة متابعة العمل الحكومي سيطرتها على شؤون الحياة في غزة؟"، وتستعرض الضربات الإسرائيلية ضد الجهات الحكومية في القطاع، والأثر الذي يترتب على انهيار النظام والقانون.
في بداية الحرب، وضعت إسرائيل ضمن أهدافها القضاء على حماس الفصيل السياسي والعسكري، وحتى الحكومة التي تتبع لها وتتولى إدارة غزة، وتعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتحقيق ذلك وعدم وقف القتال حتى تشكيل جهة حكومية جديدة وبديلة تتولى إدارة القطاع.
وعلى اعتبار أن هناك فصل بين حركة حماس الفصيل السياسي، وحكومة غزة التي تعد جهة رسمية مهمتها تسيير أمور السكان، فإن "زوايا" سوف تركز في تقريرها هذا على الجهة الأخيرة فقط.
وفيما يخص حكومة غزة، فإن إسرائيل اتبعت أسلوبين واضحين للقضاء عليها، الأول توجيه ضربات عسكرية ضد بنية لجنة متابعة العمل الحكومي وكوادر الحكومة، والثاني محاولة نشر الفوضى ووضع خطط متعددة لإيجاد بديل حكومي، وفقاً لما يقوله الباحث في الشؤون الأمنية اللواء المتقاعد سعيد فنونة، في حديثه مع "زوايا".
فعلياً نفذت إسرائيل إجراءات عسكرية قاسية جداً ضد لجنة متابعة العمل الحكومي في غزة، إذ بدأتها في تدمير المرافق الحكومية والبنية التحتية لحكومة غزة، ووفقاً للتحديثات الإحصائية التي ينشرها المكتب الإعلامي الحكومي للحرب على قطاع غزة، فإن إسرائيل حتى اليوم 280 للحرب دمرت بشكل كامل نحو 197 مقراً حكومياً.
يؤكد مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة في حديثه مع "زوايا" أن جيش الاحتلال الإسرائيلي دمر جميع المرافق الحكومية في القطاع، واستهدف البنية التحتية المؤسسة للعمل الحكومي، مثل قواعد بيانات الموظفين والحكومة الإلكترونية التي كانت لجنة متابعة العمل الحكومي قد قطعت شوطاً في تأسيسها.
يقر الثوابتة أن تدمير المرافق الحكومية والبنية التحتية لحكومة غزة عقد مهمة إدارة القطاع، وجعل لجنة متابعة العمل الحكومي تفقد جزء كبير من قدرتها على مواصلة العمل، وبسبب ذلك غابت الجهات الإدارية عن المشهد اليومي.
في الواقع، وبحسب علوم إدارة الكوارث فإن تدمير القدرات الحكومية من المفروض أنه لا يعيق عمل الحكومة ولا يمنعها من مواصلة عملها، لكن في غزة انهارت لجنة متابعة العمل الحكومي بسرعة.
يقول الباحث الأمني فنونة "يبدو أن لجنة متابعة العمل الحكومي في غزة لم يكن لديها خطة طوارئ صحيحة لإدارة الحرب، وربما أنها لم تتخيل أن تكون الحرب بهذا الحجم والدمار، ولهذا انهارت عن مواصلة نشاطها".
بعيداً عن تدمير المقرات الحكومية، فإن إسرائيل اتبعت أيضاً استهداف الكوادر الحكومية في القطاع، وأثر ذلك بشكل واضح على النشاط الضعيف الذي كانت لجنة متابعة العمل الحكومي تقوم به خلال الشهور الستة من الحرب.
يضيف فنونة "بدأت إسرائيل توجيه ضرباتها العسكرية ضد عناصر الشرطة، وبشكل واضح كانت تستهدف أي قوات كانت على رأس عملها، ونسقت ذلك مع حملة تحريض كبيرة وعالمية ضد شرطة غزة".
فعلياً منعت إسرائيل عناصر شرطة حماس من تأمين قوافل المساعدات الإنسانية التي كانت تدخل عبر معبر رفح قبل اجتياحه وإخراجه عن الخدمة، واستهدفتهم بشكل مباشر أثناء عملية تأمين شاحنات المعونات الغذائية.
طلبت إسرائيل من الأمم المتحدة عدم التعامل مع الشرطة في غزة لتأمين قوافل المساعدات، وأبلغتها أن موظفي وزارة الداخلية باتوا تحت دائرة الاستهداف، وبالفعل أقر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأن تل أبيب ترفض التعامل مع شرطة غزة، ولا تسمح لها في تأمين المساعدات الإنسانية.
وسعت إسرائيل من دائرة الاستهداف المباشر لحكومة غزة، حتى أنها بدأت تغتال شخصيات يصنفها مدير المكتب الإعلامي الحكومي الثوابتة بأنها مفصلية في حكومة غزة، مثل رئيس لجنة متابعة العمل الحكومي عصام الدعاليس، ومدير عام وزارة الاقتصاد أسامة نوفل، ووكيل وزارة العمل إيهاب الغصين، وأعضاء بارزين في المجلس التشريعي ومسؤولين آخرين في الأجهزة الشرطية بما فيها الأمن الداخلي.
يعتقد أستاذ العلوم الأمنية سعيد فنونة أن هذه الضربات كانت رسائل مباشرة إلى الموظفين الحكوميين أنه يتوجب عليهم عدم العمل مع حكومة غزة، ورفض تنفيذ الأوامر التي تصلهم من لجنة متابعة العمل الحكومي.
بحسب فنونة نجحت الضربات العسكرية الإسرائيلية في انهيار النظام المدني والحكومي في غزة، وغابت بفعل الاستهدافات جميع أنشطة حكومة غزة، وسادت الفوضى وغياب القانون في مختلف نواحي القطاع.
يؤكد فنونة أن اغتيال الكوادر الحكومية في غزة تركز على قادة الأجهزة الشرطية ومسؤولين برتب متوسطة وعليا، ما أدى إلى نشر حالة الفوضى وإخفاء أي جسم فلسطيني رسمي يتولى مسؤولية إدارة غزة في المرحلة الراهنة.
من وجهة نظر إسماعيل الثوابتة وهو يمثل حكومة غزة، فإنه يقول في حديثه الخاص "المئات من الكوادر الحكومية سقطوا شهداء، وتنوعت الاستهدافات حتى شملت شخصيات من مختلف القطاعات الحكومية".
ويضيف "جميع القطاعات الحكومية كانت مستهدفة، لقد قضت إسرائيل على مسؤولي الأجهزة الأمنية الصحية والاقتصادية وحتى الإعلامية، لكن القطاعين الأمني والصحي هما الأكثر خسارة منذ بداية الحرب".
أكثر من 500 شخص على صعيد الكوادر الصحية قتلت إسرائيل منذ بداية الحرب، بحسب حديث الثوابتة الذي يؤكد أن هناك قرابة 310 حالة اعتقال منهم.
يعرف الثوابتة أن إسرائيل سعت من وراء استهداف الكوادر الحكومية واعتقالهم إلى إحداث نوع من الفراغ الحكومي والإداري وتثبيت حالة الفوضى، ويعترف بأنها نجحت في ذلك إلى حد كبير.
يؤكد الثوابتة أن هناك انعكاسات سلبية على استهداف الكوادر الحكومية وأن نشاط الموظفين الحكوميين تؤثر على الصعيد الميداني ما أدى إلى وجود حالة من الفوضى في القطاع بسبب غياب القانون.
في أي حال، حاولت إسرائيل خلق جسم بديل عن حكومة غزة وحاولت منح العشائر والعائلات فرصة للحكم، لكنها فشلت في ذلك بعد أن كان هناك تنسيق بين حكومة غزة والعشائر المحلية، وحاول الجيش دفع خطته للأمام عن طريق اغتيال العميد فايق المبحوح، الذي يشغل منصب مسؤول التنسيق مع العشائر ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، لكنها أيضاً فشلت في مهمتها.
لم تنجح إسرائيل في تجاوز حكومة غزة بالمطلق، إذ لم تضع حتى اللحظة خطة واضحة لليوم التالي للحرب، لكن نتنياهو كثيراً ما يروج لفكرة وجود إدارة مدنية وقوات مدعومة من دول عربية.
الفصائل الفلسطينية وتحديداً حماس تعتبر أن ذلك ضرباً من الخيال، ويقول عضو المكتب السياسي في الحركة باسم نعيم إن الشعب الفلسطيني لن يقبل أي وجود عسكري أو أمني غير فلسطيني في غزة، وإن السلطة الفلسطينية هي أضعف من أن تقوم بهذا الدور في القطاع بعد هذه المعركة الضارية.
يعترف نعيم بأن حماس غير مخولة بعد هذه المعركة في التفرد بالحكم وأن الأمر شأن داخلي فلسطيني، ويفضل أن يكون شكل الحكم عبارة عن حكومة وحدة وطنية تحكم قطاع غزة والضفة الغربية والقدس لفترة محدودة وتقوم بمهام محدودة، مثل إعادة إعمار قطاع غزة وتوحيد المؤسسات التي عاشت وعانت من انقسام عمره 17 سنة، والتحضير لانتخابات.
من وجهة نظر أخرى يقول الباحث السياسي إياد القرا في حديث لـ"زوايا" "تل أبيب فشلت في تحقيق هدفيها الأساسيين من الحرب، استعادة جميع الرهائن وتدمير حماس بالكامل، بالنسبة إلى الهدف الأخير فإن هناك مؤشرات تدلل على ذلك".
يعدد القرا المؤشرات، وزارة الاقتصاد تعمل ولو بأقل الإمكانيات، وقيام المكتب الإعلامي في جميع أنشطته، بالإضافة إلى دفع جزء من رواتب موظفيها ما يشير إلى هيكلية إدارية شبه متماسكة.
ويوضح القرا أن هذا يدل على عدم تنازل حماس عن إدارة الوضع الاقتصادي بغزة، وأنها لن تتنازل عن الحكم مجبرة ولكن يمكن ذلك إذا تنازلت الحركة طوعاً ضمن اتفاق لا يبدو أنه سهل.