الخبر الإعلامي في قطاع غزة بين الحقيقية والاستهبال؟!

تغطية الأخبار في غزة
تغطية الأخبار في غزة

على مدار خمسة عشر عامًا وأكثر اعتاد الناس في قطاع غزة على تصدرهم للخبر الأول في نشرات الأخبار العربية لما كان للقطاع دوارَا هامًا في ملئ ساعات البث الهوائي في تلك القنوات ما خلق لها مشاهدين كُثر بل ومريدين، لما للقطاع وفلسطين من رمزية لها الأثر البالغ في تبني الخبر دون الخوض في تفاصيله.

عانى القطاع طيلة تلك السنوات من حصارِ شديدٍ امتد إلى أدنى حاجات الإنسان المعيشية، حتى كاد فتح أحد المعابر وإدخال المواد الأساسية خبرًا مهمًا تُنصب له الكاميرات ويتجهز له المراسلون ليقوموا بالتغطية المباشرة لدخول الإسمنت، ومن هنا ومرورًا بالحروب العديدة التي شنها الاحتلال الاسرائيلي على القطاع والتي أدت إلى سقوط آلاف الضحايا والمصابين وتدمير آلاف الوحدات السكنية والمصانع والشوارع والمرافق العامة، أخذ القطاع في تصدر المشاهد الاخبارية أكثر فأكثر، وما زال يتصدر كلما حان الوقت لتصعيد ما يحدث في الوقت الذي تريده إسرائيل لتقتل أكبر عدد من الناس هنا.

اقرأ أيضاً: "سمن على عسل".. كيف تطورت علاقة مصر بحكومة غزة؟

هذا الواقع خلق ما يمكن أن نسميه مجتمعًا صحافيًا كاملًا كبير العدد، وهنا كلمة صحفي مجازية أكثر منها صفة حقيقية، فالصحفي هو في الأساس صانع للخبر أكثر منه مراسل يقوم بالتغطية، ولأن الحروب في العادة تحتاج إلى مراسلين وناقلي خبر ليقوموا بنقل وتصوير الأحداث للناس، ازدهر في القطاع عمل ما يطلق عليه (الناشط الإعلامي) الذي نشأة جراء تغطيته للأحداث الحربية الحاصلة في القطاع مما زاد من انتشاره على مواقع التواصل الاجتماعي وخلق منه اسمًا معروفًا بات يُشكل قاعدة جماهيرية كبيرة موزعة على كل مدن العالم العربي والغربي الذين كانوا مهتمين بمتابعة الأخبار العاجلة التي اجتهد (الناشط الإعلامي) في نقلها.

في خضم هذه التفاصيل الغزية المكررة من قرطاسية الحرب والحصار أصبح هذا الناشط الإعلامي ضيفًا على اللقاءات الاجتماعية التي تعقدها العديد من المؤسسات العاملة في المجالات الإنسانية بوصفهم (مشاهير لديهم متابعين) مما أكسبهم حضورًا دائمًا في المجال الحيوي للمتابع الغزي، هذا كله جعل الناشط بحاجة إلى مادة شبه يومية لنشرها على صفحته التي يتابعها مئات الآلاف من المتابعين، وهذا الأمر صعب ومرهق في ظل واقع غزي جديد لم تعد الحروب مادته الأساسية، بل ربما تحدث بعض المناوشات شبه العسكرية التي عرفت فيما بعد (بقواعد الاشتباك) التي لا تحدث دمارًا أو ضحايا تستدعي توسيع نطاق عمليات القصف والقصف المضاد، وبالتالي أخبار حربية تستدعي النقل، وهنا فقد الناشط الإعلامي مادته الأساسية التي كانت السبب المباشر في صعود نجمه الإعلامي وتعزيز حضوره، فمنهم من انصرف لعمل فيديوهات تقريرية عن أشياء المدينة وبعض أنشطتها التي يمكن لها أن تخلق الجدل حولها، لكن اجتهاد هؤلاء لخلق مادة إعلامية لإطعام صفحاتهم التي تحتاج في اليوم إلى فيديو أو اثنين من أجل المحافظة على حالة الوصول على الصفحة دفع البعض منهم إلى عمل فيديوهات فارغة المعنى، أما العدد الأكبر فقد انكب على تغطية العديد من الأخبار الاقتصادية ورابط المئة دولار القطرية وأخبار الرواتب والهزل التي انتشرت في الآونة الأخيرة والمتعلقة بالتك توك والأنستقرام والمشاهير الذين يصفهم البعض بالتافهين، ومنهم من نجح في الخروج من دائرة نقل الخبر الحربي إلى دائرة أخرى مختلفة تمامًا مثل العمل في الدعاية والإعلان، أو تبنى مشروع اقتصادي والخروج نهائيًا من دائرة الفعل الخبري المكرر، وأنا أرى أن هؤلاء هم من نجحوا بشكل حقيقي في استثمار الشهرة التي حققوها لتحقيق النجاح في مجال جديد بعيدًا عن الابتذال.

اقرأ أيضاً: بينما يحاول نتنياهو نقل الاعتدال ، تتجه حكومته نحو مواجهة حتمية مع العائلات الثكلى

أما في جانب الوكالات الصحفية التي نشأت وترعرعت على الخبر الحربي العاجل معظمها يعاني من فلس حقيقي في إجاد محتوى منافس فلجأ معظمها إلى سياسة (المانشيتات) أي العناوين الكبيرة اللافتة التي بالعادة لا محتوى حقيقي فيها من أجل دفع المشاهدين للضغط على الرابط لاحتساب (نقرة) مالية تعمل على تفعيل واستمرار عمل الوكالة، هذا كل يرجع في أسبابه إلى تحول قطاع غزة إلى دائرة خبرية مقتصرة على فكرة الخبر العاجل، وإهمال أي أخبار ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، والبعد بشكل كبير عن التحقيقات الاستقصائية لما لها من مخاطر شخصية وحكومية على معدها، مما عزز وجود ومكانة ناقل الخبر على حساب الصحفي الحقيقي، مما تسبب الآن بحدوث تضخم في الحالة الإعلامية في القطاع مما انعكس على تغطية الأخبار ولجوء الاعلامي إلى تغطية الأحداث الهامشية وتصعيدها للرأي العام الذي سرعان ما يتفاعل معها ليدور الجميع في دائرة التتفيه التي عُمل عليها بشكل مقصود من قبل دوائر داخلية وخارجية للوصول إلى هذه الحالة المشوه للعمل الاجتماعي والصحفي في قطاع غزة، حتى بات الصحفي الحقيقي حائر في أمره، ويسأل نفسه: من هؤلاء؟!

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo