"التكييش" يدهم المجتمع الغزي.. هل التدخل الحكومي كاف؟

الأسواق الشعبية في غزة
الأسواق الشعبية في غزة

تنتشر بشكل كبير ولافت ظاهرة يطلق عليها "التكييش" في كثير المعاملات التجارية داخل قطاع غزة، بما يصحبها من آثار ضارة على الأفراد والاقتصاد والمجتمع برمته، حيث تنامت مع هذه الظاهرة قضايا النصب والاحتيال والذمم والجنح المالية، التي تُحال عادة إلى الجهات الأمنية المختصة والمحاكم بالقطاع.

و"التكييش" عبارة عن عملية اقتصادية محفوفة بالمخاطر، ولها صور عديدة، ومنها قيام شخص بشراء أي سلعة (لا يحتاجها عادة) بالتقسيط، سواء عبر الكفالة الشخصية أو من خلال كتابة كمبيالات أو شيكات بثمن السلعة، وأحيانا بأضعاف قيمتها، وذلك بغرض إعادة بيعها من أجل الحصول على السيولة النقدية.

ويسود "التكييش" في مجال شراء الجوالات والأجهزة الكهربائية والأثاث وغيرها، فعلى سبيل المثال يقوم المشتري بشراء السلعة بـ(2000 شيكل) تقسيطاً من البائع، ثم يبيعها بـ(1200 شيكل) نقداً، وهو ما يؤدي إلى ترصد خسارة في ذمته بـ(800 شيكل) وهكذا.

والأمثلة الواقعية كثيرة حول التقسيط و"التكييش"، فهذا الموظف (لؤي.ر) –على سبيل المثال لا الحصر- بادر لشراء جوال بالتقسيط ثمنه 1500 شيكل ليبيعه خصيصاً لصديقه بـ1000 شيكل فقط، عازياً ذلك إلى حاجته لسيولة نقدية تعينه على سد جزء بسيط من الديون المتراكمة عليه.

ويجد صاحب متجر الأجهزة الكهربائية (س.ض) نفسه وكثير من التجار مضطرين للبيع بالتقسيط في ظل الركود الاقتصادي الحاصل في القطاع، فرغم زعمه أنه لا يتعامل بـ"التكييش"، إلا أنه أفصح بأن كثيرا من قرنائه لا يجدون حرجاً في التعامل بهذه الطريقة، وخاصة أن المبادرة تكون من المشترين، بهدف الحصول على السيولة النقدية.

وما سبق من أمثلة تعد حالات صغيرة لهذه المعاملات من جهة المبالغ ونسب الأقساط ومدتها، مقارنة مع معاملات أخرى توصف بالكبيرة، مثل تجارة السيارات، والتي بسبب غلاءها يخوض كثيرون مغامرة سحبها بالتقسيط، الأمر الذي يترتب عليه التزامات كبيرة والتوقيع على شيكات أو كمبيالات بدفعات مالية عالية، تنتهي في كثير من الأحيان إلى مطالبات وملاحقات في أقسام الشرطة والنيابة والمحاكم وخلافه، ما بين البائع والمشتري.

ومما ساهم في إضعاف السيولة النقدية وانتشار ظاهرة "التكييش" في قطاع غزة الحصار الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من 16 عاماً، وما تبعه من أزمات معيشية في المنطقة الأكثر اكتظاظاً وفقراً وبطالة، وضعف الرواتب والوظائف والمنح، إلى جانب استمرار الانقسام الفلسطيني.

وأظهرت أحدث بيانات صدرت عن البنك الدولي للعام 2021م، بأن نسبة الفقر في قطاع غزة وصلت إلى 59%، أي أكثر من 1.2 مليون فلسطيني في قطاع غزة يعيشون تحت خط الفقر.

كما يعاني القطاع من نقص كبير في الوظائف وفرص العمل، حيث أظهرت نفس البيانات السابقة بأن معدل البطالة وصل إلى 45% بين أفراد القوى العاملة، ووصلت بين الشباب إلى 62%، وبين النساء 79%.

ظاهرة أم حالة واقعية؟

ولا تتوفر إحصاءات حول الشكاوى الواردة للجهات المختصة في غزة بشأن التجاوزات المتعلقة بحالات "التكييش"، وذلك حسب ما أفاد يعقوب الغندور المستشار القانوني لوزارة الاقتصاد، لكنه أشار إلى عشرات الشكاوى وردتهم منذ بداية العام الجاري 2022 ومنها ما يتم حلها داخل الوزارة وأخرى يتم تحويلها للنيابة العامة.

اقرأ أيضاً: لواء مصري: الخلافات بين "بايدن" وحكومة "نتنياهو" القادمة ستظهر سريعًا

ولا يميل الغندور في حديثه لـ"زوايا" إلى اعتبار "التكييش" ظاهرة متفشية في المجتمع الغزي، مكتفياً بوصفها بـ"الحالة الواقعية"، الأمر الذي استدعى تدخلهم وإصدارهم قرارين معتمدين من لجنة متابعة العمل الحكومي بغزة: الأول حظر التكييش، والثاني حظر نظام البيع بالتقسيط للشركات غير المرخصة، مؤكدا أن من يخالف القرارين يتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه.

وذكر الغندور أن هناك عدداً كبيراً من حالات "التكييش والتقسيط"، ولكنها لم تصل إلى مستوى اعتبارها ظاهرة، مضيفا "حين راجعنا المحاكم وجدنا أن لديها آلاف القضايا من هذا النوع، لكن معظمها ليست واقعية وصحيحة، فعلى سبيل المثال، هناك من تورط بالتوقيع على كمبيالة قيمتها 3000 شيكل والمبلغ المستحق عليه 500 شيكل فقط".

وعن سبب تأخرهم في التدخل للحد من ظاهرة "التكييش" رغم تعامل المواطنين به منذ سنوات؟ فقد اعتبر الغندور أنه لا يمكن الجزم بقِدم هذه الحالات، حيث أن غالبية الجهات التي كانت تتعامل بـ"التكييش" ليست مرخصة، منوهاً إلى أنه لم تكن تأتيهم شكاوى من هذا القبيل، كما هو حاصل في الفترة الحالية، نظراً لتراكم هذه المعاملات على الكثيرين.

إحالات للنيابة وإغلاقات

وأوضح الغندور أن وزارته، أخذت على عاتقها مع بداية العام الجاري 2022م، ملاحقة تجاوزات التكييش والتقسيط، ولاسيما مع زيادة حالات ابتزاز المواطنين واستغلال حاجتهم في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها القطاع، مشيراً إلى أن الوزارة أصدرت نحو سبعة قرارات لها علاقة بمعالجة هذه الموضوع برمته.

ولفت إلى أنه طالما صدر قرار وزاري بحظر التكييش والتقسيط غير المرخص، فمعنى ذلك أنه يمكن للمتضررين التقدم بشكاوى إلى النيابة العامة، لمباشرة إجراءاتها القانونية وليس بالضرورة المجيء للوزارة للشكوى، مبيناً أن وزارة الاقتصاد حولت للنيابة تسع شركات مخالفة تتعامل بـ"التكييش" حتى الآن.

ونوه إلى أن الادارة العامة للشركات وحماية المستهلك بوزارة الاقتصاد، تقوم بالتقصي وتلقي الشكاوى وتتعامل معها على الفور، في حين أن الشكاوى الثابتة والتي لا يتم حلها داخل الوزارة يتم احالتها للنيابة العامة وبالتحديد إلى نيابة جرائم الأموال.

وشدد الغندور على أنه منذ صدور القرارين المتعلقين بحظر التكييش وحظر نظام البيع بالتقسيط، قامت الشؤون القانونية بوزارة الاقتصاد باستدعاء كل الشركات المرخصة وغير المرخصة، والتي تعلن عبر منصات التواصل الاجتماعي عن عروضها وبرامجها للتقسيط، وجرى توقيعهم على تعهدات بعدم المخالفة وتصويب أوضاعهم القانونية.

وكشف الغندور أن وزارة الاقتصاد بغزة أصدرت قراراً بحق أربع إلى خمس شركات بالإغلاق، منها شركات سابقة وحديثة تتعامل بنظام التقسيط وهي غير مرخصة، كما قامت بتحويل شركات أخرى للنيابة العامة، بسبب أنها مُرخصة للتقسيط، ولكنها تتعامل بالتكييش وتخالف النظام في نسبة أرباحها.

ونوه الغندور إلى أن إحدى الشركات قامت بعمل افتتاح كبير لبداية عملها بالتقسيط، وحين المتابعة والتفتيش تبين أنها غير مسجلة ومرخصة في وزارة الاقتصاد، ما تطلب استدعائها لإصدار قرار فوري بإغلاقها، منبهاً أن وزارته في مثل هذه الحالات تكون جهة إغلاق فوري بشكل مؤقت ومن ثم تقوم بإحالة الملف للنيابة العامة، أما الشركات المخالفة القائمة فيتم إحالتها للنيابة للمتابعة القانونية، حسب تعبيره.

اقرأ أيضاً: "عنق الزجاجة".. كيف تخرج حكومة غزة بالمشروع إلى النور؟

وكانت لجنة متابعة العمل الحكومي بغزة قد صادقت خلال نوفمبر الماضي على توصيات اللجنة التي شكلتها بخصوص محاربة ظاهرة "التكييش" قانونياً واجتماعياً، وتضم كلاً من وزارة الاقتصاد الوطني، وزارة الداخلية والأمن الوطني، وترأسها وزارة العدل، حيث أوصت اللجنة بتدخل المجلس التشريعي الفلسطيني لإصدار قوانين أو تشريعات، أو إجراء تعديلات على قوانين موجودة تجرم هذه الظاهرة.

كما أوصت اللجنة بتوعية المواطن بمخاطر هذه الظاهرة، وأن ممارستها أو المشاركة فيها تُعرضه للمساءلة القانونية وعليه تحمل تبعاتها، كذلك أوصت بأن تقوم وزارة المالية بملاحقة الشركات التي تعمل بهذه الطريقة ضريبياً لردعها، فضلاً عن إجراءات مشددة من النيابة العامة وبأحكام مشددة من القضاء لردعها.

 مؤشرات اقتصادية سلبية

ووفقاً لمتابعاته في هذا المجال، يرى أحمد أبو قمر الكاتب الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي، أن "التكييش" ظاهرة اقتصادية غير سليمة تظهر مع نقص السيولة في الأسواق وحاجة المواطنين لها، ومن خلالها يتم الحصول على السلع عبر التقسيط وبيعها بسعر أقل لتوفير مبلغ نقدي.

وأوضح أبو قمر لـ"زوايا" أن "التكييش" يُظهر جانب آخر من المؤشرات الاقتصادية السلبية المتمثلة في ضعف القدرة الشرائية عند المواطنين، عاداً أن نسبة "التكييش" تصل على الأجهزة والأثاث لقرابة النصف، وهو ما يفقد المواطنين مدخراتهم بطرق غير رسمية، كأن يشتري أحدهم هاتف جوال بقيمة ألفي شيكل لبيعه بالأسواق بقيمة ألف شيكل.

ومن وجهة نظر أبو قمر، فإن حل مشكلة التكييش تتمثل في رفع القدرة الشرائية للمواطنين وضخ السيولة اللازمة في جيوبهم، عبر رفع نسبة رواتب الموظفين وزيادة فرص العمل بالأسواق.

أما أحمد شاهين المستشار القانوني والمهتم في الشأن الاقتصادي، فقد ركز على دور الرقابة الحكومية على كافة المشاريع والشركات ذات البعد العام، والتي تُعنى بتقديم خدمات عامة للجمهور كالشركات ربحية مثل البنوك، والإقراض، وتيسير الزواج، وشركات الحج والعمرة، مشيراً إلى أن بعضا منها تتسبب بالتغول والإذلال للمستهلك تحت مبررات واهية أهمها: حفظ وتحصين حقها، الأمر الذي يتناقض مع طبيعة العمل الربحي الذي يمتاز بالمخاطرة، وبالتالي تكون النتيجة هي هوامش ربحية معتبرة.

وعبر شاهين خلال حديثه لـ"زوايا" عن أسفه بأن الأوراق والسندات التي يقوم المواطن بالتوقيع عليها سواء (عقد خاص، تعهد والتزام، كمبيالة، سند دين منظم، شيك، كفالة.. الخ) في ذات الآن وعلى ذات المعاملة، يضاعف من المبلغ المستحق، ليصل في غالب الأحيان إلى حد الإذعان والتسليم شبه المطلق بكل ما يملك المواطن المستهلك.

وعن الدور الحكومي الواجب في هذا المجال، يقول شاهين: "هو محاربة هذه الظاهرة والحد من وجودها من خلال تجريمها، وكذلك محاربة سلوكياتها"، عاداً أنه ليس من المنطق أن يقوم البائع من أجل ضمان حقه، بإمضاء المشتري على سندات بمبالغ مضاعفة تصل إلى عشرة أضعاف أحياناً، عبر سندات متعددة ومختلفة تم ذكرها سالفاً.

لماذا تأخرت الحكومة؟

وحول وجهة نظره عن تدخل الحكومة في غزة للحد من هذه الظاهرة، يقول شاهين :"ما لا يدرك كله لا يترك جله، خصوصاً مع تنامي الشكاوى بسبب الالتزامات الناتجة عن التكييش"، ولكنه يرى أن كل الخطوات المتخذة لن تجدي نفعاً دون بث الوعي المجتمعي المطلوب على جميع الأصعدة والمستويات، لأن المواطن فعلياً هو المتضرر الحقيقي من هذا الفعل، الذي يزيد في غنى الأغنياء وفقر الفقراء.

وكرر شاهين بأن دور الحكومة لا بد أن يتعاظم في هذا الإطار، وذلك من خلال سلوكيات إجرائية معتبرة في متابعة المعاملات من خلال الوزارات المختصة حسب مجالاتها في ضبط عمل الشركات، والرقابة على تعاملاتها ومستنداتها ومتطلباتها وكيفية تعاملها مع الجمهور، وذلك في سبيل توازن العلاقة ما بين المواطن والتاجر بما يحفظ لكل طرف حقه ويضمن المساواة والعدالة في الالتزامات المتبادلة ما بين الطرفين.

وعن أهمية وضرورة مراعاة المتورطين لدى الجهات التنفيذية من هذه الاجراءات بسبب الأوضاع الاقتصادية؟ فقد ذكر شاهين "القانون لا يحمي المغفلين، لا سيما أن المستهلك لجأ إلى هذه المعاملات طواعية وبإرادة حرة ومنفردة دون إجبار أو إكراه ووقع على أوراق ومستندات تُرتب عليه التزامات حتمية في ذمته، وبالتالي لا يستطيع القانون توفير حماية مطلقة للتصرفات المعتبرة والتي يترتب عليها التزامات".

وأردف "التدخل الحكومي في مثل هذه الحالات سيكون تدخلاً مخلاً، بمعنى أنه سيُؤخذ على أنه تعاطف مع المستهلك على حساب التاجر، الذي هو أيضاً ماله قائم على السرعة والائتمان لتعظيم هذا المال حسب اختصاص عمله كشركة ربحية، فهو بالنهاية يريد أن يربح وخاصة إذا كان ملتزماً للحكومة بكل الالتزامات المطلوبة لممارسة نشاطه وعمله بحرية".

واستدرك شاهين قائلاً "لكن هناك مراعاة أدبية تتم في أحيان كثيرة، من خلال إعطاء المستهلك المُهل والفرص والتأخير والتقسيط وإفساح المجال للوصول لصلح معين في إطار آليات وإجراءات للالتزام بدفع المبلغ المستحق للبائع".

وختم شاهين حديثه بالقول: "لا شك أن هذا الملف حساس وخطير ويهدد السلم المجتمعي، وكذلك يهدد الاقتصاد الحقيقي للبلد، لأنه يُولد تداولا وهميا على السلع والخدمات، وبالتالي لا يعطي مرآة حقيقية لحجم التداول المالي والنقدي والتجاري الفعلي، بل إنه يصل إلى مرحلة أن يكون لدينا تجارة وحركة مالية وهمية وغير حقيقية تتعاظم بشكل مخالف لجوهر المعاملات الحقيقية".

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo