المقدسيون

المقدسيون
المقدسيون

قبل عام تقريباً كانت الناشطة الشابة المقدسية منى الكرد تُسمى أيقونة حي الشيخ جراح في القدس، بعد عام بالضبط كانت هناك هجمة شرسة على الأيقونة، التي تحولت في نظر المهاجمين من مناضلة عنيدة ترفض الاحتلال جملة وتفصيلاً، إلى مطبعة تدعو للتعايش مع الاحتلال!!! حتى أن كثيرين من نشطاء الفيس الغزاويين تحديداً صاروا يذرفون الدمع على الدماء الغزاوية التي أريقت في جولة الحرب في العام الماضي، والتي كانت أحداث الشيخ جراح سبباً رئيسياً لها، وأنها- أي الدماء- إريقت في سبيل من لا يستحقها..!

تكمن المشكلة في أحادية التفكير النضالي الفلسطيني، وفي عدم القدرة على التمييز بين خصوصية الساحات، وأهمية التنويع في أشكال النضال، لكن قبل أن أكمل عليّ أن أسجل هنا أن الضجيج الكبير حول مائدة الإفطار الجماعي في حي الشيخ جراح، والتي ضمت بعضاً من اليهود الإسرائيليين من المؤمنين بالسلام لم تكن محل جدل رسمي من أي جهة رسمية فلسطينية، على الأقل على حد علمي، إنما أثارها ناشطون، لكن رسمياً لم تكن هناك لا حملات إدانة، ولا تأييد، لكن هؤلاء الناشطين وإن كانوا بأحاديثهم لا يمثلون رسمياً حتى الأحزاب التي ينتمون إليها، إلا أنهم بظني يمثلون أفكارها، أو طريقة تفكيرها، أو ربما طريقة تفكير جزء لا يستهان به من شعبنا الفلسطيني، الذي يحشر النضال الفلسطيني في الوسائل القتالية، متغافلاً ساحات النضال الأخرى التي لا تقل ضراوة عن قتال البندقية، والتي تتفنن إسرائيل في خوضها.

اقرأ أيضاً: عملية "إلعاد" فردية..لكنها مختلفة عن سابقاتها لأكثر من سبب

إسرائيل المتفوقة علينا عسكرياً لم تكتف في صراعها معنا بالوسائل القتالية، إنما تخوض ضدنا معاركاً في كل الميادين الممكنة، وأهمها ميادين الرواية، ومحاولة شيطنة الضحية، وتقديم نفسها- وهي الجلاد الحقيقي- للعالم بثوب الضحية، وهذا بالمناسبة ما يدحض زعم بعضنا بأن إسرائيل لا تلتفت إلى ما يقوله العالم عنها، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، بل هي شديدة الحساسية تجاه كل ما يمس الصورة التي عملت على رسمها في مخيلة العالم، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر ما قالته جولدا مئير رئيسة وزراء إسرائيل في مؤتمر صحفي ذات مرة: "يمكننا أن نسامح العرب على قتلهم لأطفالنا، ولكن لا يمكننا أن نصفح عنهم لإجبارهم ايانا على قتل أطفالهم"!!! لاحظوا هذه اللغة الخبيثة التي تسعى للظهور كالملاك الرحيم الذي سيسامح قاتلي أطفاله، لكنه لن يسامح من اضطروه مرغماً لقتل أطفال الآخرين، وكأنها حزينة على أطفال الآخرين إلى الحد الذي لن تستطيع معه مسامحة من أجبرها على قتلهم مضطرة، بينما يمكنها أن تسامح قاتلي أطفالها!!!

نعرف نحن الفلسطينيون حجم الخديعة التي تمارسها إسرائيل بمثل هذه اللغة، لكن، هل تعرف شعوب العالم الحقيقة كما هي؟ يقيناً وحتى اللحظة على الأقل استطاعت الرواية الإسرائيلية التفوق على روايتنا، ليس لأنها تمتلك مقومات التفوق، لكن لأن إسرائيل توليها أهمية لا تقل عن أهمية المعارك القتالية، وتطوير السلاح، بينما لا زلنا نحن نناقش عدم جدوى هذه الساحة، تحت ذريعة أن العالم مصطف مع إسرائيل ظالمة أو مظلومة، وحيث أن المقام الآن ليس مناقشة هذه المقولة التي يقدمها بعضنا كحقيقة غير قابلة للنقاش، فسأكتفي بالقول: إن العالم كحكومات ليس كله على قلب رجل واحد فيما يتعلق بإسرائيل، وهناك تباين لا يمكن تجاهله، وهذا ما نشاهده في كل مرة تُعرض قضية متعلقة بصراعنا مع إسرائيل على الجمعية العامة للأمم المتحدة، أما العالم كشعوب فهو- وأقصد هنا الشعوب تحديداً- لا يلتفت في تقييمه للعدل والظلم بما تقرره الحكومات، إنما لما يشاهده من الدلائل، والمشاهد التي توجه مشاعره، وعواطفه، فالناس هم الناس، يتعاطفون مع الخير إن استطاع الدفاع عن كونه خيراً، وينبذون الشر إن استطعنا كشف حقيقته.

بالعودة إلى موضوع المقدسيين.

ما يواجهه المقدسيون ليس هو ذاته ما تواجهه بقية تجمعاتنا الفلسطينية، حتى داخل فلسطين نفسها، القدس في بؤرة الاهتمام الصهيوني، ليس لأن الحركة الصهيونية حركة دينية، إنما لأنها اعتمدت الدين كقومية لجمع ما يمكنها جمعه من يهود العالم، فهي انطلقت بمزاعم دينية تقرر حق كل يهود العالم في فلسطين، وهي باختصار لا تستطيع تجاهل المقولات الدينية المتعلقة بفلسطسن، بل هي بحاجة لها، لأنها عصب فكرتها المتعلقة بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، والقدس بؤرة هذا التفكير الصهيوني، مرة أخرى سأستدل بمقولة دينية توراتية افتتح بها اسحاق شامير كلمته في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م:

"إنْ نَسيتُكِ يا أورُشَليمُ، تنسَى يَميني ليَلتَصِقْ لساني بحَنَكي إنْ لَمْ أذكُركِ، إنْ لَمْ أُفَضِّلْ أورُشَليمَ علَى أعظَمِ فرَحي" .

اقرأ أيضاً: أحمد مناصرة ...عندما يقتل الاحتلال الطفولة

لا علاقة للمسألة في تدين شامير من عدمه، إنما في حاجة الحركة الصهيونية لمثل هذه المقولات الدينية، فالقدس إذن ليست كغيرها، ومنذ اللحظات الأولى لاحتلالها سعت إسرائيل جاهدة لتغيير معالمها بتهويدها، ومحاولة القضاء على أي معلم عربي، أو فلسطيني فيها.

المقدسيون هناك لا يستطيعون على الحقيقة تحدي قوة إسرائيل وحدهم، ولا مجابهتها بالسلاح وحده، إنما بنزع أي ذريعة يمكن لإسرائيل أن تتذرع بها لانتزاعهم، حتى لو قيل بأن إسرائيل ليست بحاجة إلى الذرائع، وأنها قادرة على اختراعها، ونحن لا ننكر ذلك بالمطلق، لكننا ننكر أن محاولة نزع الذرائع ليست ذات فائدة، ونرى أن أهم ما يمكن للمقدسيين أن ينجزوه في هذه المرحلة التي تتغول فيها إسرائيل، وينكشف فيها ظهر الفلسطينيين من ظهير قادر على حماية وجودهم في القدس هو المحافظة على البقاء، وتقديم صورة للعالم بأنهم ليسوا متوحشين، وليسوا تجار دماء، وإن كان هناك يهود، حتى لو كانوا إسرائيليين يدعمون حقهم بالبقاء في وطنهم، فهم مستعدون للتعاون معهم، فمعركتهم ليست مع كل يهودي، إنما مع الكيان الذي يسعى لاقتلاعهم من أرضهم.

نحن ملزمون بتقديم صورة للعالم تنسف الصورة التي رسمتها إسرائيل، خاصة ونحن لا نملك القدرة الآن على اقتلاع إسرائيل بقوة السلاح، ما يجعل لمعركة الصورة والرواية أهمية لا تقل عن أهمية حق الشعب الفلسطيني في ممارسة كل أشكال النضال المشروعة.

المقدسيون لم يخذلوا الدماء الغزية التي سالت من أجل القدس في العام الماضي، وهم يقاتلون بكل الأشكال والوسائل المتاحة والممكنة، ومن ضمنها الوسائل السلمية، التي يمكنها إلى حد ما أن تفكك ما يمكن أن يتحول إلى إجماع داخل المجتمع الإسرائيلي على اقتلاعهم، ويمكنها أيضاً أن تصدر للعالم صورة عن الفلسطيني الباحث عن الحياة، وليس الراغب دائماً في الموت، وإماتة الآخرين، كما هي الصورة التي تستميت إسرائيل في تصديرها للعالم عنا، وهم بذلك يقولون للعالم أن إسرائيل لا تحارب المحاربين وحسب، إنما تحارب مجرد وجود الفلسطينيين في أرض امتلكوها لآلاف السنين، حتى التوراة التي تستند إليها الرواية الصهيونية لم تنف وجود الفلسطينيين قبل وخلال وبعد أي تواجد لأي إسرائيلي كان في فلسطين، سواءً قبل آلاف السنين، أو بعدها، هذا إن سلمنا أن جغرافيا التوراة كانت فعلاً في فلسطين.

كلمة أخيرة:

نحتاج كفلسطينيين إلى شيء من العقل، وشيء من الهدوء، وشيء من عدم تغليب عواطفنا- حتى الوطنية منها- على عقولنا ونحن نخوض معاركنا المتنوعة مع كيان لم يترك أي ساحة من ساحات المعارك، قتالية، أو فكرية، أو روائية، إلا وخاضها ضدنا.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo