عن فساتين غزة، وآخر حبة في كيس البزر!

محل لبيع الملابس النسائية
محل لبيع الملابس النسائية

هذه من المرات القليلة التي يُخالف فيها هواي مزاج النساء، ولعمري إن هذا هوىً يؤرقني، لهذا سوف أوضح الأسباب هنا، فربما تلاقى الهوى والمزاج فأكسب الرهان! وإن خسرت فأعظم الخسارات هي مكاسب إذا تعلّق الأمر بفرح الآنسات!

مددتُ يدي بالأجرة ناحية السائق الشاب، وانتظرت لحظاتٍ حتى انتهى من أكل بزر عين الشمس ثم مدّ يده بتراخي واضح، ثم قبض كف يده على النقود وأرجعها، ثم فتحها، فشاهد فيها "عشرة شيكل" والأجرة المطلوبة نظير توصيلي هي شيكل واحد فقط، فقال لي - دون أن ينظر ناحيتي - وهو يَكسرُ حبّة بزرٍ بين أسنانه: "معكاش فكة؟! فقلت له: "لأ معيش".

لم يُعقب السائق على جوابي، ولم أشعر أنه اهتم أصلا، وربما كان يكلم نفسه! كان تركيزه كله منصب على كسر حبّات البزر، حتى وصلنا إلى المجلس التشريعي - نعم ليس نكتة، يوجد في فلسطين مجلس تشريعي - فأرجع السائق لي النقود كما هي "عشرة شيكل" فسألته أن يأخذ أجرته فقال وهو يبحث عن حبة بزر سقطت من بين أصابعه: "الله يسهل عليك" وأعطاني كبشة بزر وهو ينصحني قائلًا: "تنساش تِرمي آخر حبة بتفضل معك، لأنها على الأغلب راح تكون مُرة!"

تذكرتُ أنني كتبت عن هذا الأمر ذات مرة، فغالبًا ما تكون آخر حبة في كيس البزر مُرّة، أو عفنة، وتحسبًا من آخر حبة، أكلت أول حبة ووضعت الباقي أمام باب المجلس التشريعي!

لنذهب إلى هناك، على رأي قاضي القضاة! قادتني قدماي إلى حي الرمال، شارع عمر المختار تحديدًا، وأنا المُقاد المُقيّد في سجلات الشوارع، فهي تعرفني تمام المعرفة، بأمارة ما اهترأت سراويلي من الجلوس على حواف جباه أرصفتها الخشنة.

سمعت في المدينة حديث يتناقل عن سوء تصاميم الملابس النسائية هذا العام، وبأنها ليست بالمستوى المأمول مما أزعج أحلام الورد بأن يفوح شذاها في أيام العيد، عوضًا على أسعارها العالية، وهذا حقيقة واقعة فالأسعار نار تكوي الجيوب، لكن ليس هذا وحده هو السبب، فمزاج من خاط الملابس لا يتلائم مع مزاج الناس هنا، فملابس العصر الفيكتوري، لا تتلاءم والعصر الحمساوي، فملابس الشباب تأخذ شكلًا غريبًا لا هوية له، لذا أظن وليس كُل الظن إثم أن المستورد المحلي ما زال يعيش في جلباب جده، ولم يخرج منه!

أما عن ملابس النصف الأحلى والأجمل كما أطلق عليهم الرئيس أطال الله بقاءه، فهي تأخذ من الربيع ألوانه وشكله، فأغلب المعروض من فساتين وألبسة نسائية يطغى الورد على تصميم أرضيتها، بينما يأخذ الشكل تفاصيل الفراشة، أو الجرس، وبعضها يأخذ من زهر التوليب شكلًا جماليًّا يجعل من الفتاة كأنها فردوس صغير، وتصميم آخر مفتوح من الوسط يميل إلى شكل وردة زنبق الكالا، وهذا الشكل هو الأجمل والأفتن، لكنه يحتاج إلى فضاء واسع من الحرية كي يُلبس على أصوله، فموديلات التصاميم مستوردة كلها من تركيا، وتصلح جدًا للهواء التركي على البسفور أو على ممشى فلوريا في اسطنبول، ولا أرغب في القول أنها تصلح لشاطئ مرمريس كي لا يغضب أهل الدراية! وللعلم هذه موديلات ترجع في تاريخها إلى عصر الملكة فكتوريا، ذلك العصر الذي انعكس جماله على كل شيء فيه، ومن ضمنها الملابس، فهي دليل واضح على التمايز الاجتماعي والثقافي بين أفراد المجتمع، فكانت الملابس واسعة وفضفاضة ومزركشة كناية عن الراحة والدلال، حتى حدثت الثورة الصناعة فتغيرت الملابس كي تتوائم مع خروج المرأة للعمل في المصانع، فكان أول ظهور للملابس الرسمية، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى وافتقر العالم فاتجه إلى تخصير الملابس وتقصيرها توفيرًا للقماش، حتى لمعة فكرة في دماغ المصممة الإنجليزية ماري كوانت أُطلق عليها "جيب" بتفاصيله التي تعرفونها طبعًا: الميني والمايكرو، وضرورة العشرة سم!

اقرأ أيضاً: تقرير بحثي: مليارات المانحين لم تنجح في تحقيق تنمية مستدامة في فلسطين

أنا لا أحب ما سبق من تأريخ وكلمات جامدة، ولكن لابد منها - أتأسف على إضاعة وقتكم الثمين - المهم ما وددتُ قوله أن تلك الفساتين الموردة على أٌنسها، والجلال الطبيعي فيها إلا أنها تفقد جمالياتها في المدينة المحبوسة في الظن والجغرافيا، لأنها أقمشة صماء مُصممة لتتكامل مع القوام الأنثوي المُتكلم عن نفسه، لتتحقق الحالة الجمالية المُرادة، والتي تتجسد في الانطلاق الحر ما بين الروح والجسد.

في سيري البطيء في ذلك الشارع الفاتن، رأيت على جانب محل باقة من الفتيات كن ينظرن إلى فستان من قماش الساتان، وهذا النوع من القماش مرتفع الثمن، ولا يصلح إلا لمطارح معينة، لكن المَعروض كان تقليدًا للأصل، فانصرفن عنه الفتيات اللواتي بدا على إحداهن الخبرة عندما وصفت القماش بأن غير نقي!

بجانب ذلك الفستان كانت تُعرض تنورة "بيليسيه" طويلة وجميلة جدًا، لم يلتفت أحد إليها، فهذا الموديل من الملابس مظلوم في بلادنا، فهو يحتاج إلى سيدات قررن أن يتركن كل أمور الدنيا ويتفرغن للجمال والمزاج، وهؤلاء قليلات في غزة لكنهن موجودات ويجلبن ملابسهن من الخارج، ومن لندن خاصة!

كنتُ أستشعر فيما قرأت وسمعت من تعليقات الفتيات أن حنقهن على الملابس ليس لأنها غير جميلة؛ بل لأنهن لا يستطعن ارتدائها على أصولها كما يشاهدنها في الأفلام والمسلسلات، وفي الصور الآتية من وراء البحار، فلا معنى لارتداء فستان مورد فوق بنطال، فهو ليس جلبابًا، ولم يصمم لهذا أبدًا، لكن هناك من حاول أن يحتال على العادة والتقليد والممنوع ليقدم خدمة للفتيات، وأظن أنه يجب أن يُشكر على ذلك. وعلى كلٍ، سوف تتقلص موضة التصاميم في الملابس قريبًا؛ لصالح صناعة الإكسسوارت، وأعتقد أن هذا أمر فيه من الجمال ما يستحق الاحتفال به بكعكةٍ حلوة، أو معمولة غارقة بالسكر .. يا سكر أنت.

في ذاك الشارع تشعر أنك تسير في سراب من الأنس لا ينتهي، كل شخص في المدينة له قصة فيه، سواء مع أقراص فلافله، أو قهوة المقهى القديم الذي أغلق بابه بعد أنا مات صوته، أو الشروق الذي غيبته طائرات الحديد، المهم هناك ستجد أشياء جديدة تتعرف عليها لأوّل مرّة، أنا تعرفت على كرسي انتظار اسمنتي جميل تعلوه شجرة ظل، جلستُ عليه أنا وصديقي نزار على مفترق فلسطين، وهناك .. وسبحان الله ما أحلى هناك!

نعود إلى المعروض، أثناء سيري المقصود كي أكتب هذا الكلام المنثور، وقف أمامي شاب كان يُروج لبضاعته مُناديًا: "كل المعروض عليه عروض" فطاوعت مزاجي ودخلت المَعرِض كي أرى المَعروض، فلم أجد في المكان شيئًا، فقط أرفف فارغة! فسألته: هل أنا في المكان الصحيح؟! فقال: نعم. هذا معرض من أقدم معارض الألبسة النسائية في الرمال، فقلتُ له أنني أعرف ذلك - وأنا لا أعرف ولا بطيخ - ولكن أين المعروض سألته؟ فضحك الشاب وراح يلعب في فرد بلاستيكي يُخرج من فوهته فقاعات من الصابون تنتشر على وجوه المارة الذين كانوا يتعاملون معها بكل رقة واستسلام، كأنها قُبل نثرها الأحبة في مساء حزين ورحلوا، والقُبل تعرف أهلها!

آلمني حديث الشاب وهو يفرغ غضبه في فقاعات الصابون، وانكفأت إلى المنزل، وفي طريق العودة اتضح لي شيئًا مهمًا، وهذا الرأي ليس من باب الاعتراض على الشراء، فليس أنا من يعترض على أمر يفرز لدي الجميلات هرمون الدوبامين، ولكن صدقًا أقولها بدون يمين، أن الملابس التي كانت ترتديها النساء، أجمل من تلك المعروضة للعيد! فلا ضير إن أحبننا ملابسنا القديمة، وكما قال الرحباني بما معناه، لا يوجد فستان سيء مادام هناك إمراه تحب أن ترتديه!

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo