خصوصية الساحات

المواجهات في الضفة الغربية
المواجهات في الضفة الغربية

سأبدأ هنا بما قاله أيمن عودة القائد الفلسطيني داخل الأراضي الفلسطينية في مقابلة صحفية، وأعاد نشره على صفحته على الفيس بوك، قال:

" نعم أنا أقول للفصائل الفلسطينية بوضوح: نحن نرفض تسليح شبابنا، طريقنا هو النضال الشعبي المثابر، لهذا فأنا أتوجه للفصائل الفلسطينية مباشرة بأن لا يصدروا بيانات ترحيب بالأعمال المسلحة التي يقوم بها فلسطينيون حملة الجنسية الإسرائيلية.

نحن أبناء شعب واحد، ولنا قضية واحدة في صُلبها تحقيق الحقوق القومية لشعبنا، ولكن أيضًا هنالك خصوصية لعدة شرائح من أبناء شعبنا.

سئلت في وسائل الإعلام عشرات المرات: كيف على الفلسطينيين في الضفة وغزة أن يناضلوا؟!

أجبت دائمًا وأبدًا أن شعبي في الضفة وغزة مدرسة في النضال، وهو الأعلم بحيثياته، كما أنه لا يحقّ لي أخلاقيا أن يكون أبنائي في مناطق آمنة نسبيًا في حيفا وأنظّر لإبن رام الله وجنين والخليل وغزة كيف يضحّي؟! واجبنا الوطني أن نساند نضال أبناء شعبنا وأن نضع وزننا الكبير في موقعنا من أجل المساهمة الجادة لانهاء هذا الاحتلال المجرم، ولن نتوانى عن واجبنا الوطني في سبيل هذه الغاية الأعزّ والأسمى".

كثيرون ربما لم يعجبهم كلام القائد الفلسطيني أيمن عودة، ببساطة لأنهم غير قادرين على التمييز بين خصوصية المواقع غير المتشابهة التي يتواجد فيها الفلسطينيون، حيث قُدّر للفلسطينيين بعد نكبة 48، وما تلاها عام 67، أن يتوزع وجودهم على مناطق ليست متطابقة من حيث قدرة الفلسطينيين على الحركة، والفعل، والبناء، والرغبة في البقاء، وجهوزية الجهة المضيفة لتحمل أعباء الوجود الفلسطيني، وتبعات أي فعل فلسطيني مقاوم.

لقد بقي جزء من الفلسطينيين في الأراضي التي احتلت عام 1948، بينما انتقل جزء آخر إلى المخيمات داخل حدود فلسطين التاريخية، والمقصود هنا في كل من غزة، والضفة، وآخرون توزعوا على دول الجوار" الأردن، وسوريا، ولبنان" واستطاع بعضهم أن يصل إلى كل من الكويت، والعراق، والإمارات، والسعودية، وبعض آخر هام على وجهه بحثاً عن أي مكان يمكن أن يجد فيه مأواه وطعامه، حتى لم يعد مكان في الدنيا إلا وفيه فلسطينيون.

اقرأ أيضاً: "الخدمة الوطنية" بمستوطنات الضفة.. ضم إسرائيلي غير معلن

لم تنته الرواية الفلسطينية بمشهد التغرببة الكبير عام 48، صحيح أنهم لم ينجزوا مشروع تحررهم بعد، لأسباب ليست كلها ذاتية، بل في غالبها موضوعية تفوق طاقة الفلسطينيين، لكنهم لم يكفوا لحظة واحدة عن النضال، كل من موقعه التي ساقته إليه أقدار اللجوء، إنما بوسائل ليست متطابقة في كل المواقع، بل هي مما تسمح به ساحة النضال المفروضة على الفلسطينيين.

مبدئياً فإن كل وسائل النضال المشروعة المعترف بها في الأعراف والشرائع الدولية، والأخلاقية هي من حق الفلسطينيين، وليس لأحد أن ينكر عليهم مبدأ اللجوء إلى أي وسيلة نضالية ما، وليست المشكلة هنا، إنما في سوء تقدير الوسيلة المناسبة، أو الحجم المناسب القادر على تحقيق نتائج ما، بمعنى: أن كل ما هو مشروع من وسائل النضال هو من حق الفلسطينيين، هذا من جهة، ومن الجهة الثانية الرئيسية أيضاً فإن طبيعة ساحة النضال، والتعقيدات المفروضة على واقع الفلسطينيين فيها من شأنها أن تحدد أي من الوسائل التي يمكن اللجوء إليها، وفق معايير محددة، منها مثلاً: قدرة هذه الوسائل على إبقاء حضور القضية الفلسطينية، وقدرة الفلسطينيين على تحمل تبعاتها، كون صراعنا مع إسرائيل طويل المدى، وقد يستغرق أعمار أجيال أخرى غير التي قضت، وكذلك عدم تهديد هذه الوسائل لفكرة البقاء، وتحديداً داخل حدود فلسطين.

لست الآن في معرض تخطيء الأساليب النضالية التي لجأ إليها الفلسطينيون في أكثر من ساحة من ساحات تواجدهم، وإن كان دوام التقييم والتقويم مما لا بد منه للحفاظ على أكثر السبل نجاعة في مواجهة عدو فريد من نوعه، لا يشكل الاحتلال العسكري وجهه الأوحد، والذي يمكن رفع تكلفته إلى الحد الذي يصبح فيه رحيله أسلم له من بقائه، بل إن الوجه الأكثر خطورة للاحتلال الإسرائيلي يتمثل في شقه الإحلالي، الذي يعني بوضوح: اقتلاع شعب من أرضه، وزرع شعب بديل، ما يعني أن فكرة البقاء والتشيث بالأرض هي النقيض الحقيقي للمشروع الصهيوني، دون أن نتجاهل أهمية الوسائل الأخرى التي تحعل فكرة الإحلال البديل ليست ميسرة، وليست جاذبة ليهود العالم، الذين وعدهم المشروع الصهيوني بجنة السمن والعسل، لكن أي لجوء لأي وسيلة نضالية يجب ألا يكون على حساب الفكرة الأصلية النقيضة للمشروع الصهيوني، والمتمثلة في البقاء في فلسطين.

في الساحات العربية المجاورة التي يتواجد فيها الفلسطينيون لجأت الثورة الفلسطينية إلى أسلوب التجييش، وبناء قوة عسكرية اعتبرتها الدول المضيفة خطراً على سيادتها، بغض النظر عن صوابية رؤية هذه الدول، لكن النتيجة التي لا يمكن تجاهلها أن هذا الأسلوب انتهى بمواجهة بين القوى الثورية الفلسطينية وهذه الدول، أفضت إلى رحيل قوات الثورة بعيداً عن مناطق التماس مع الاحتلال، وهذا ما حصل في الأردن تحديداً، وما يشبهه في لبنان، التي وجد فيها الفلسطينيون أنفسهم جزءاً من حرب أهلية لم يكونوا بحاجة لها، حتى وإن لم بكونوا سببها الرئيسي، أما سوريا فمنذ البداية لم تسمح بأي عمل عسكري فلسطيني من أراضيها، هذا التنوع في واقع الساحات المضيفة فرض ذاته على الآداء الفلسطيني، ما اضطر الفلسطينيين إلى الاكتفاء ببعض الوسائل النضالية التي لا تعرضهم إلى الصدام المباشر مع الدول التي يتواجدون فيها.

اقرأ أيضاً: "كتيبة جنين".. مقاومة تشتد رغم المستحيل

لا يمكن اعتبار دور الفلسطينيين النضالي في كل من لبنان وسوريا والأردن انتهى، لكن لا يمكن أيضاً مواصلة العمل بذات الوسائل التي انتهت بالصدام مع تلك الدول، هذا يعني بوضوح أن المقدس الفلسطيني النضالي لا يتعلق بشكل وسيلة النضال، إنمت بمبدأ النضال ذاته، والذي لا يمكن لوسائله إلا وأن تراعي طبيعة الساحة التي ينطلق منها.

داخل فلسطين الآن يمكن القول أن هناك ثلاث جبهات ليست متطابقة هي الأخرى، لكن عدم تطابقها لا يعني أن لكل منها قضية مختلفة الجذور عن قضية الجبهة الأخرى، بل هي ذات القضية، وذات السبب والمسبب، إنما يكمن الاختلاف بطبيعة الوسائل التي يمكن لكل جبهة أن تستخدمها، وفق المعايير التي ذكرنا بعضها أعلاه.

في الداخل الفلسطيني استطاع الفلسطينيون أن يحافظوا على وجودهم، واستطاعوا نزع كل مبررات اقتلاعهم التي تختلقها إسرائيل بين الفينة والأخرى، لكنهم تمكنوا من البقاء، وتنمية هذا البقاء، وفرضه كواقع لم تعد إسرائيل قادرة على تجاهله، وإن كانت ترى فيه خنجراً في خاصرة مشروعها الذي لم يكتمل، لأن الأرض لم تخلو للشعب البديل الذي جلبوه من كل بقاع الدنيا، بل إن التزايد الديمغرافي لفلسطينيي الداخل بات يشكل هاجساً للصهيونية، وأظنها تحلم في الساعة التي تصوب فيه خطأها في ال 48، حينما قبلت ببقاء أقلية فلسطينية، تحولت بعد سبعين عاماً إلى منافس ديمغرافي، ومكون حقيقي لا يمكن تجاهله.

ليس المطلوب أن يتم توريط فلسطينيي الداخل في أي نشاط نضالي يمكن له أن يشكل خطراً على بقائهم هناك، بل وعلى قدرتهم على تعزيز وتنمية هذا البقاء، دون إعفائهم من مشاركة أشقائهم الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم في العمل النضالي، ولكن بالوسائل التي يختارونها هم لأنفسهم، والتي لا تدم جهد سبعين سنة فوتوا فيها كل فرص اقتلاعهم، وتهميشهم.

الفكرة باختصار:

إن إيماننا بحق الفلسطينيين في استخدام كل الوسائل النضالية المشروعة، والمعترف بها، لا يعني الاستخدام العشوائي لها، ولا الاستخدام العاطفي الذي يتذرع فقط بحقنا في استخدام ما نريد من وسائل النضال، إنما في ملاءمة ما نستخدمه مع طبيعة الساحة التي ننطلق منها، وفي هذا السياق فإنني أوافق تماماً ما جاء على لسان القائد الفلسطيني أيمن عودة، فهم أدرى بطبيعة التهديد الذي يواجههم، ولقد نجحوا طوال تلك العقود في مواجهة هذا التهديد، وتبديد خطره على وجودهم.

حتى في غزة والضفة، وربما في الضفة تحديداً التي تحاول إسرائيل ابتلاع أكبر قدر من الأرض، بأقل قدر من السكان، فإن ما يجب أن نختاره من الوسائل النضالية، هو ما يمكنه بالفعل تحقيق الأهداف الحقيقية، دون أن يؤثر على قدرتنا على البقاء.

كلمة أخيرة:

إن اتفقنا على علاقة الوسيلة النضالية بطبيعة ساحة النضال، بعيداً عن لغة التهييج، والانسياق العاطفي، فإن علينا أن نكف عن محاولة تعميم وسيلة محددة منحناها درجة القداسة، كونها أكثر قدرة على دغدغة عواطفنا كشعب محتل يسعد بإلحاق الأذى بمحتليه، وخاطفي أرضه، لكنها في الحقيقة ليست هي المقدسة في ذاتها، إنما المقدس هو الإصرار الفلسطيني على حقه في فلسطين، بغض النظر عما يمكن أن نستخدمه من الوسائل للوصول إلى هذا المقدس.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo