تجارة "البالة" في غزة.. ما دلالات رواجها؟

بائعي ملابس البالة
بائعي ملابس البالة

يتجه نسبة كبيرة من المواطنين الغزيين إلى شراء ملابسهم من أسواق "البالة"، وذلك لانخفاض أسعارها قياساً بالملابس المستوردة في المعارض، فضلاً عن الذين يجدون ضالتهم في محلات البالة، لشراء ملابس الماركات بأقل من أسعارها العالمية.

ويربط العديد من مرتادي متاجر ملابس البالة بين زيادة الإقبال على هذه المحال، وتراجع القوة الشرائية بفعل محدودية الدخل وتراجعه في قطاع غزة، والذي لا يسمح للكثير من المواطنين بشراء ملابس جديدة لهم، إذ تزيد نسبة الفقر على 80%، في حين تلامس نسبة البطالة حاجز الـ 65%.

جولة في السوق

"زوايا" جالت في "سوق فراس" أكبر أسواق البالة في قطاع غزة، والتقت عدداً من المشترين والبائعين، حيث يضم هذا السوق مئات المتاجر المتخصصة في بيع كل ما هو مستعمل سواء من الملابس أو اللوازم والاحتياجات الأسرية وخلافها.

فهذا المواطن الأربعيني سمير الخور قصد محلات البالة في ذلك السوق، يبحث عن جاكيت شتوي "ثقيل ودافئ" كما يقول، مضيفاً "أنا بريح راسي من أول الشتاء، وبلاقي طلبي على طول في الخامة وفي السعر(..) كمان معظم أولادي بلبسهم أحلى لبس من البالة ".

كما لم يتحرج الشاب على النديم، من التباهي أمام أصحابه بأنه يلبس أحسن الموديلات والماركات من سوق البالة، لافتاً إلى أن الكثير من أصحابه دائماً ما يبدون دهشتهم من لباس الماركات المميزة، في حين أنهم لا يجدون لا مثيل.

ويضيف: لدي شغف كبير في إقتناء ملابس الجينز والأحذية الأصلية "ماركة"، منوهاً إلى أنه يتحين فرص الشراء من مخزن والد أحد أصدقائه من تجار البالة قبل فرزها وكويها وعرضها من في الأسواق أو المحلات.

حديث النديم، ساقنا لسؤال التاجر أبو علي الحواجري حول منشأ وآلية استيراد ملابس البالة والتجارة بها في غزة، فقال إن معظم البالة المستوردة في الوقت الحالي يتم جلبها من (إسرائيل) وكانت فيما سبق من الأردن وبعض الدول الأوروبية.

وأضاف: يفترض أن تجار البالة يتنوعون في استيرادهم حسب تغير المواسم والمناسبات وكذلك أذواق الزبائن وأعمارهم، ولكن وفق نظام الكوتة الحالي المعمول به في وزارة الاقتصاد، فإنه يتم جلب البضاعة مرة واحدة في السنة وتقسيمها بين التجار، لافتاً أن الأخيرة تفرض رسوماً نحو300 شيكل على الطن الواحد، في حين فضل عدم الخوض في أسعار طن البالة المتداول داخلياً بين التجار، على اعتبار أن ذلك من أسرار المهنة.

وأوضح الحواجري أن يتم استقبال "كراتين البالة" الكبيرة والمغلفة من معبر كرم أبو سالم وإدخالها إلى مخازن التجار، ليتم فرز الكمية حسب الموسم والخامة والماركة والقيمة، حيث يتم غسل وكوي البضاعة المميزة منها حتى يسهل عرضها وتسويقها في محلات الماركات بأفضل الأسعار، منوهاً إلى أن من قطع البالة "الماركة" ما يتم تسويقها وعرضها على مواقع التواصل ليتلقفها من يقدر قيمتها وسعرها الغالي نسبياً، ولكنه لا يقارن بسعرها الباهظ في بلادها، على حد تعبيره.  

استيراد بـ"الكوتة"

ورغم أن وزارة الاقتصاد تحدد كمية "الكوتة" الواردة من البالة، إلا أن هذا الرقم زاد هذا العام إلى الضعف، كما سنتعرف عليه من رامي أبو الريش مدير عام التجارة والمعابر في وزارة الاقتصاد الوطني.. فما الذي استدعى ‘دخال هذه الكميات؟

ويؤكد أبو الريش لـ"زوايا" أن لملابس "البالة" كوتة محددة الكمية ممنوع تجاوزها في الاستيراد، حيث تبلغ في العام 1000 طن ويتم تقسيمها على تجار البالة في القطاع.

ولكن حسب أبو الريش، فقد جرى في العام الحالي 2021 تجاوز الكمية المحددة لكوتة البالة، حيث بلغ إجمالي الكمية الواردة للقطاع 2300 طن، وهو ما يفسر الإقبال على ملابس البالة والحاجة الملحة لزيادة الكمية إلى أكثر من الضعف.

وأوضح أبو الريش أن قيمة الرسوم على الطن الواحد من ملابس البالة هو 300 شيكل، منبهاً إلى أن التاجر الذي يستورد من خارج الكوتة يتم تغريمه 50 شيكل على الطن الواحد، منوهاً إلى أن كمية الملابس الجديدة المستوردة للقطاع تبلغ في العام ما بين (200-300 كونتينر).

اقرأ أيضاً: الانتخابات المحلية.."جائزة ترضية" تحمل مستجداً؟

ولفت إلى أن استيراد "البالة" ليس مرتبطاً بالمواسم وإنما بالكوتة السنوية، بمعنى أن لدى التجار الحرية في إدخال "كوتة البالة" في شهر أو شهرين أو أكثر أو حسب الموسم، مشدداً على أنه يجب أخذ أمر استيراد من وزارة الاقتصاد، ولكن في حال تجاوز أي تاجر للنظام المعمول به، ويقوم بجلب كمية إضافية عن الكوتة إلى معبر كرم أبو سالم، فإنه يتم إدخالها ولكن بالغرامة المذكورة سالفاً.

علاقة عكسية

وحول ما إذا كانت "البالة" تؤثر على أسواق الملابس الجديدة المستوردة أو المصنعة محلياً؟ فقد أجاب وائل العاوور رئيس اللجنة الاقتصادية في الغرفة التجارية بالقول: "إن هناك علاقة عكسية بين دخول ملابس البالة ودخول الملابس المستوردة، فكلما يزيد دخول البالة يقل استيراد الملابس المستوردة للسوق بسبب عزوف المستهلك وانخفاض سعر البالة".

أما بالنسبة للتصنيع المحلي، فقد أكد العاوور لـ"زوايا" أن معظم الملابس المصنعة محلياً يتم تسويقها خارجياً، مبيناً أنه يعمل في قطاع غزة 210 مصنعاً للخياطة وتشغل من 8000 إلى 10000 شخص شهرياً.

وحسب وزارة الاقتصاد في غزة، فإن أكثر من 300 مصنع قد أغلقت أبوابها بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القطاع، في حين أن هناك 100 منشأة صناعية تم تدميرها بشكل كامل من قبل طائرات الاحتلال، وباقي هذه المصانع أغلقت أبوابها بسبب منع الجانب الإسرائيلي إدخال المواد الخام لتشغيلها، بينما أدى تدمير وتوقف هذه المصانع إلى فقدان 350 عاملاً مصادر رزقهم، الأمر الذي فاقم من معدلات الفقر في صفوف شريحة واسعة من الغزيين.

ويرى العاوور أن تجارة "البالة" قديمة جداً، ولكنها كانت لشريحة محددة في المجتمع وهم أصحاب الدخل المحدود، أو الذين تعسرت حياتهم، ويديرونها بشكل اقتصادي محسوب، مشيراً إلى أنه على الرغم من أنها كانت تجارة رابحة لما فيها من ماركات عالمية غير موجودة في سوق الملابس الجديدة، وبعض الأحيان يأتيها زبائن من الطبقة الراقية والميسورة، إلا أن اليوم الأمر اختلف بالكلية.

وقال: "أصبحت أسواق الملابس المستعملة مفتوحة لجميع أبناء قطاع غزة، بحكم الأوضاع الصعبة والمعقدة، وكل يوم يلتحق أناس جدد لهذا السوق، لأن الأوضاع الاقتصادية تزداد سوءاً، وتباعد بين المواطن والملابس الجديدة ذات الأثمان الباهظة".

وأضاف "رغم تدني أسعار سلع الملابس المستعملة، إلا أن الإقبال عليها يأخذ منحى الضرورة، وهذا دليل أن الناس يعانون أشد المعاناة، وأن الأوضاع المعيشية في قطاع غزة وصلت إلى درجة غير مسبوقة".

وأردف العاوور "الظروف الصعبة التي عاشها الفلسطينيون طوال حياتهم أدت الى تقبل فكرة شراء ملابس البالة أكثر من شعوب أخرى، بالإضافة الى سوء المعيشة وضعف القدرة الشرائية وضعف دخل الفرد لشريحة كبيرة من المواطنين".

وتابع" بصراحة الجميع يرى أنه ليس هناك ما يعيب في لبس هذا النوع من الملابس، حتى إن البعض يتباهى بنوع الماركة الأوروبية التي يلبسها ويعتبر أنها فرصة لاقتناء ملابس جيدة بأسعار زهيدة، ناهيك عن الطريقة الجديدة بعرض الملابس وغسلها وكويها فهي أيضا تؤثر على العملية الشرائية ونظرة المشتري للبضاعة".

تحليل.. معدل الإقبال

وكمن سبقه، فقد أرجع الكاتب الاقتصادي حامد جاد، زيادة معدلات الاقبال على شراء ملابس البالة، إلى ملائمة أسعارها "الرخيصة" مع القدرة الشرائية لأكثر شريحة في المجتمع وهم الفقراء وذوي الدخل المحدود، عاداً -في نفس الوقت- أن الموظفين وذوي الدخل المتوسط يفضلون شراء الماركات المعروفة والمشهورة عالمياً من هذه الملابس، وذلك بسعر يتناسب مع وضعهم المادي.

ونوه جاد في حديثه لـ "زوايا" إلى أن الشريحة الأكبر من الذين يترددون على شراء ملابس البالة ويفضلونها، هم من الشباب الذين يتمتعون بالاطلاع على الماركات الأجنبية عبر السوشيال ميديا أو مصادر مختلفة.

كما أشار جاد إلى سبب آخر لتزايد الاقبال على البالة واستيراد التجار لكميات مضاعفة منها، حيث لا يقتصر طلب ملابس البالة على الذكور، بل إنها تباع للإناث والأطفال ولمختلف الأعمار، مشيراً إلى الانتشار الواسع للمحلات التي تبيع ملابس البالة خلال السنوات الأخيرة.

وذكر جاد أنه لم تعد محلات ملابس البالة، تقتصر على الأسواق الشعبية بل تجدها في أفضل الأسواق التجارية، حيث لها نصيب من المحال التجارية المرتفعة في الأحياء الراقية مثل حي الرمال وسط مدينة غزة، مبيناً أن من هذه "البالة" ماركات لها علاقة بالأحذية والحقائب والمستلزمات العديدة و الخاصة بالمظهر الخارجي للإنسان.

وحول ما إذا كانت "البالة" تؤثر على أسواق الملابس الجديدة المستوردة أو المصنعة محلياً؟ فقال جاد: ""بلا شك تؤثر إلى حد ما ولكن بنسبة محدودة جداً، فمن يقصدون المحال التجارية التي تبيع الملابس الجديدة ليس بالضرورة أن يكونوا هم أنفسهم الذين يُقبلون على شراء ملابس البالة".

ولفت إلى أن هناك فئة معينة محدودة جداً ممن يشترون من محلات ملابس البالة والجديدة في آن واحد، ولكن الغالبية العظمى من الذين يقصدون الملابس الجديدة لا يترددون على محال الملابس البالة لأسباب عدة، ومنها لتصورهم أن الملابس الجديدة لها طابع مميز وتبدو بشكل أفضل أمام الوسط والمجتمع الذي يعيشون ويتناسب مع "برستيجهم"، على حد تعبيره.

ونوه إلى أن "من الذين يقصدون ملابس البالة لا يجدون حرجاً من البوح عن مصدرها، بل ويتفاخرون بملابسهم الماركة، حيث لم تعد الملابس المستخدمة سمة تحد من المظهر الاجتماعي لمن يقتنيها".

ويرى جاد أن محال ملابس البالة لا تؤثر على محال الملابس الجديدة، سيما خلال فترة المواسم السنوية، لأن الغالبية يقصدون المحال التي تبيع الملابس الجديدة، علماً أن الملابس الجديدة لم تعد كسابق عهدها مرتفعة الثمن، حيث أحياناً تكون الملابس المستخدمة أكثر ثمناً من الملابس الجديدة عندما تكون بحالة جيدة وضمن الماركات المعروفة أو موديلها أو تصاميمها مميزة وحديثة.

وفيما يخص تأثر تجار ومستوردي الملابس الجديدة من "البالة"، فقد اعتبر جاد أن المذكورين، لديهم المعرفة والقدرة على تحديد احتياجات السوق، حيث يستوردون من الأسواق المختلفة ويضعون المشتري أمام خيارات متعددة، فمنهم من يستورد من الصين أو تركيا أو غيرها، فضلاً عن تفضيلهم لإنتاج مصانع غزة مثل الجلباب الحريمي وغيره.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo