أما وقد بدأت تُنشر تباعًا الإحصاءات التى تفصل نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية ٢٠٢٤، فقد تأكد ما كررته كاتبة السطور فى هذه المساحة بعد الانتخابات، فهاريس لم تنهزم لأن ترامب استطاع أن يحصل على نسبة من الناخبين أعلى مما حصل عليها فى ٢٠٢٠، ولا لأنه انتزع أصواتًا من خانة الحزب الديمقراطى، وإنما لأن تلك الأصوات التى تذهب للديمقراطيين امتنع أصحابها عن التصويت أصلًا أو أعطوا أصواتهم لمرشحين مستقلين، كتصويت احتجاجى. وقد تبين أن كامالا هاريس دفعت ثمنًا باهظًا حين رفضت التخلى عن موقف إدارة بايدن المتطرف فى دعمه لإسرائيل وسط حرب إبادة جماعية.
ولعل أهم البيانات التى برزت كان استطلاعًا أجرته مؤسسة حكومية، لا حزبية، (وهو فى أمريكا يعنى مصداقية أعلى) أثبت أن القضية الأولى على سلم أولويات أولئك الناخبين حين اتخذوا موقفهم من كامالا هاريس كانت موقف الأخيرة من غزة، فقد سُئل المستطلعة آراؤهم عن السبب وراء عزوفهم عن التصويت لها، وترتيبها بين القضايا المسؤولة عن هذا القرار، فإذا بغزة تتصدر القائمة!، فهى القضية الأولى لدى ٢٩٪ منهم، فسبقت حتى أوضاع الاقتصاد التى جاءت فى المرتبة الثانية بنسبة ٢٤٪، بينما احتلت الرعاية الصحية المرتبة الثالثة بواقع ١٢٪ والهجرة المرتبة الرابعة بواقع ١١٪.
وكشف الاستطلاع عن أن الإبادة الجماعية فى غزة، بتصدرها القضايا فى الولايات الحاسمة تحديدًا، لعبت دورًا معتبرًا فى نقل تلك الولايات من خانة الديمقراطيين فى ٢٠٢٠ إلى خانة ترامب فى ٢٠٢٤. واللافت للانتباه أن ولاية ميتشجان، ذات الحضور القوى للعرب والمسلمين الأمريكيين، لم تكن بها النسبة الأعلى من أولئك الذين كانت غزة على قمة أولوياتهم، إذ سبقتها فى ذلك ولاية أريزونا بواقع ٣٩٪ وجاءت ميتشجان فى المرتبة الثانية بواقع ٣٢٪، فتساوت فى ذلك مع ولاية ويسكنسن، الصغيرة نسبيًّا من حيث عدد السكان. معنى ذلك أن غزة حظيت باهتمام لدى أمريكيين من كل الأعراق والإثنيات لا فقط المسلمين وذوى الأصول العربية. وبنسبة ١:٣ ممن منحوا بايدن أصواتهم فى ٢٠٢٠ قالوا إنهم كانوا مستعدين لدعم هاريس لو أنها تخلت عن موقف بايدن وتعهدت بوقف تدفق الأسلحة لإسرائيل.
وقبل تحليل ما تقدم من بيانات، تنبغى الإشارة إلى مسألتين على جانب كبير من الأهمية. أولاهما أن الأرقام السابقة تأتى أهميتها عند مقارنتها بالأصوات التى حصل عليها الديمقراطيون فى انتخابات ٢٠٢٠. أى أننا هنا نتحدث عن أصوات الديمقراطيين والمستقلين، لا أصوات الجمهوريين. فهاريس انهزمت لأن الديمقراطيين تخلوا عنها كما تخلت عنهم. أما المسألة الثانية بالغة الأهمية فهى أن هناك فارقًا كبيرًا بين القول بأن غزة كانت القضية «الأولى» على رأس قائمة من القضايا شغلت أذهان الناخبين وبين القول بأنها كانت قضيتهم «الوحيدة»، فكما هو واضح، كانت هناك قضايا كثيرة تشغل الناخبين وقت التصويت.
ومع ذلك، تظل البيانات بالغة الأهمية، فرغم أن قيادات الحزب الديمقراطى ترفض الاعتراف بأن غزة لعبت دورًا معتبرًا فى هزيمة مرشحتهم، فإن هذا لا ينفى مطلقًا أن الحزب شهد فعلًا تحولًا محوريًّا يتعلق بفلسطين. ولا يقل أهمية عن تلك التحولات الحزبية تلك الحركة الاحتجاجية الواسعة التى عبرت عن نفسها انطلاقًا من الجامعات وفى الشوارع. ولو أن تلك التحولات ليست مهمة لمَا سعى لوبى إسرائيل بكل قوته لوصول ترامب إلى البيت الأبيض، ولمَا عمل جاهدًا لقمع تلك الحركة الاحتجاجية فى الفصل الدراسى الحالى بتقييد حرية التعبير بين الطلاب والأكاديميين واعتقالهم وفصلهم وترحيل الأجانب منهم.