كنت قد انتهيت من رواية حديقة السيقان قبل عام من الآن، ومن وقتها ويدي تؤلمني، ربما استقر صوت ضحايا مسيرات العودة من المبتورين في داخلي وأراد أن يهرب ويعود إليهم، فمهما يكن التعاطف لن يصل إلى مرحلة الألم الحقيقي، لأن الذي يأكل الكفوف ليس مثل الذي يقوم بعدها، وها أنا أنقل إليكم القصة الأولى من رواية حديقة السيقان، وهي بالمناسبة ليست أقسى ما سمعت، لكن صاحبها طلب مني أن تكون قصته في صدر الرواية.
كنتُ بحاجةٍ إلى قضيّة أتبناها، قضية أعيش من أجلها، أو أقول لك، أموتُ من أجلها، أشعر أنّ عمري يسرقُ منّي أمام عيني، ورغم أنفي، من يراني يظنُّ أنِّي قد بلغتُ الأربعين عامًا، وأنّ لي أبناءً لا أستطيع إعالتَهم بسبب الهزال الذي كسا وَجهي. كثيرًا ما نشيخُ ونحن في عُمرِ الشَّباب، نكبر أعوامًا عديدة في أيام وربَّما لحظات. ما زلت في آخر عِقْدي العشرين، لم أتزوّج بعد، ويبدو أنَّني لن أفعلها أبدًا، بسبب... وأشارَ بين فخذَيه!
ذهبتُ إلى السياج الفاصل بدافع الفضول لا أكثر، سمعتُ كثيرًا عن الذين يذهبون إلى هناك، قصص كثيرة سمعتُها، بعضها لا يُصدَّق من فَرطِ غرابتها.
سمعتُ كثيرًا عن مفردات الوطن، والتَّضحية، والكرامة، وخُطَب المساجد، والسَّاسة، لكنَّني صدقًا تمنَّيت لو ألمس أيًّا من تلكَ المفاهيم على أرض الواقع، كل ما في الأمر أنَّ هناك أُناسًا يُدْعَونَ إلى حتفهم باسم الوطن والدّين ويَذهبون، وجماعةٌ يخطُبون في جنازاتهم بكلماتٍ حماسيّة كبيرة.
أحيانًا كثيرة كنت أحضر جنازات القتلى لمجرَّد المشاركة، وكلَّما سمعت كلمة "البطل" أبتسم، فلمْ يكن القتيل بطلًا، كان ضحيَّة يبحث عن كرامته، ولقمة عيشه، وشَهْوته، وربَّما غير ذلك من تصاريف الحياة. كم رغبتُ أن أصدحَ بما يجول في خاطري؛ لكنَّني كنت أصمت وأكتفي بالابتسام.
اقرأ أيضاً: قرار بريطانيا بحظر "حماس": عوامل أنضجته..وأهداف أوجبته
في أوّل الأمر وقفت بعيدًا عن الجماهير المحتشدة، أراقب فقط، وبعد لحظاتٍ رأيت نفسي أنساق دون إرادةٍ منّي وسط الحشود. كان الحدث مربكًا جدًّا، إنها دماءٌ تسيل على الأرض، دماءٌ قانية اللون، حقيقيةٌ لا مجازَ فيها. فتًى بشوش الوجه كان يراقب مثلي ما يحدث، ربَّما ظنَّ نفسه في ساحة لُعبةٍ على شاشة الحاسوب، يقف بجانبي، أصيب برصاصةٍ في رأسه، لا أدري كيف صرخت وقتها، وحملته بين ذراعيّ، وهروَلتُ به إلى الخلف، حاول آخرون مساعدتي في حمله، لكنَّني لم أترك لأحدٍ المجال.. صرت أهرول بسرعة، والدِّماء ترسم من خَلْفي خطًّا أحمرًا، كأنَّه أثَر سحليّةٍ تزحف على رملٍ مشبَّعٍ بالماء.
قبل أيام خرجتُ في رحلة مع أصدقائي إلى شاطئ البحر، بعد أنْ أصَرَّتْ أمي عليهم أن يأخذونني معهم، وقتها، لم أكن قد خرجت من المنزل منذ فترةٍ طويلة بسبب إصابتي، كان الخروج والمشي يُصيباني بألمٍ كبير لا أحتمله، رُغمَ مرور عدّة أشهر على إصابتي، عِوضًا عن أوجاعٍ أخرى لا يمكنُني الحديث عنها مع أحد؛ لكنِّي رضخْت لرأي أمي التي أشفقت عليّ، وأشفقتُ عليها، وأنا أستشعر الألم في عينيها، فلمْ أشأ أن أُسبِّبَ لها مزيدًا منه، يكفيها ما تعانيه في رعايتي والتفكير بمُستقبلي.
ذهبتُ برفقة الأصدقاء إلى البحر، وجلسْنا على إحدَى الطاولات التي كنا نجلس عليها في المرَّات السابقة قبل إصابتي، حيث كنا نأتي إلى البحر للسباحة أو الاستجمام، لم يكن استجمامًا بالمعنى الطبيعيِّ للكَلمة، كنا فقط نجلس ونشرب القهوة وندخِّن النارجيلة، ونتلصَّص على الفَتيات اللواتي يَخُرجْنَ من البحر وملابسهنَّ قد إلتصَقَتْ بأجسادهِنّ، كان مشهدًا مُغريًا جدًّا تتسمَّر له عيوننا فتراتٍ طويلة.
بقينا هنالك لساعتين، شربنا فيهما القهوة، وخلعَ الأصدقاء ملابسهم ونزلوا إلى البحر للسِّباحة، بينما بقيت وحْدي أحرس ملابسهم وهواتفهم المحمولة، وعُلب سجائرهم ومحافظهم الفارغة. عكفتُ على هذا الحال أشربُ القهوة، وأدخِّن النارجيلة، وأسترقُ النظر على الفتيات اللَّواتي يخرُجنَ منَ البحر، لكنِّي لم أشعرْ هذه المرّة بما كنتُ أشعر به من قبل. ففي السابق كنتُ أتخيَّل وأشْتهي، أمّا الآن، فأنا أشاهد بمشاعرَ مُحايدة، لا أشعر بأيِّ شيء، وعندما أعود إلى المنزل، على الأكيد أنَّني لنْ أمارسَ العادةَ السريَّة.. ربَّما أصبح شاعرًا!
فكرةٌ رائعة فعلًا، أصبح شاعرًا! وأكتب في الأشياء التي كانت تثير شهوتي، أنسجُها للقرَّاء، فيُستَثاروا هم، وأكْتفي أنا بحسرة الوصف الدقيق، حتمًا ستتضاعفُ قدرتي على الوصف، فكلُّ تركيزي سينصبُّ في ذلك الفعل لا غيره.
كانت مجنَّدة! يقول إبراهيم وهو يحكُّ جبهته بكفِّ يده: لا زلتُ أذكرها جيدًا، بعدما حملت ذلك الفتى المصاب وأوصلته إلى نقطة الإسعاف، وتيقَّنت أنه قد فارق الحياة، لقد كان رأسه محفورًا حفرة بحجمِ قبضة اليد، عدت بعدها وتقدّمْت أكثر صوْبَ السياج الفاصل، ورحت أصرخ وأشتم الجنديّة وأنا أرفع كفَّ يدي في وجهِها والدم يقطر منها، بينما هي مُنبطِحة على بطنها فوقَ تلّةٍ من الرمل صُنعت خصِّيصًا للقنَّاصة، كانت مؤخِّرتُها بارزةً وسهلة التدوير، مثل الخوذة التي كانت ترتديها فوق شعرها، والتي لم تُفقِدها أنوثتها، فأشارَتْ لي بإصبَعِها الأوسط، فوضعتُ يدي على عضوي الذكري ومِلتُ إلى الخلف كي أرُدَّ عليها شتيمتها، فأطلقَتْ رصاصتها نحوي، فانقطع لي إصبعين، لا أعلمُ أين هما الآن! وإصبعٌ ثالث كبير تضرَّرَ بشكلٍ قاس، ذلكَ الثالث كان أهمَّ إصبعٍ فيهم، كنا نسمِّيه عندما نمزح بين الأصدقاء: إصبعُ البَطن.
كان الأصدقاء ما زالوا يسبحون في البحر، ويتلاعبون ويتربَّصونَ بالنساء والفتيات وقتما تتسلَّق الأمواج أجسامهنَّ فتشمُّر عنها الملابس وتلتصق، هناك لؤمٌ كبيرٌ يحدث على الشاطئ، من الفتيان والفتيات، لكنِّي الآن أصبحت خارج هذه الدائرة تمامًا.. عند عودتنا في المساء أوْصَلني الأصدقاء إلى باب منزلي، ودّعتُهم وتواعدنا على الالتقاء غدًا والسهر.. وبينما أغلق باب المنزل؛ رأيتُ أمي تجلس على الكنبة، تقابلها جارتنا التي لم تُسارع إلى تغطية شعرها، وما ظهر من صدرها كما كانت تفعل في السابق!.
طلبَ منّي إبراهيم أن تُدوَّنَ قصته في صدر الحكاية، وعدته بذلك، وها أنا أَفِي بالوعد.. فيما بعد علمتُ أنّ إبراهيم قد حاول الانتحار!