تقرير بعد أربع حروب.. أطفال غزة غارقون في الاضطرابات النفسية

أطفال غزة
أطفال غزة

منعزلًا في إحدى زوايا البيتِ، سارح الذهنِ مشتت الفكرِ، رغم طفولته التي لم تتجاوز سبعة أعوامٍ، وإذا حان الليلُ تقلّب على فرشتِه الصّغيرةِ في أحد البيوت المستأجرة في غزة بعدمَا هدَمت طائرات الاحتلال بيته، يصحو من نومِه فزعًا، تصيبه نوبات هلع متقطعة.

وكما رصدت "زوايا"، يحاولُ والد "أحمد" جاهدا أن يطبّبَ بعض آلام صغيره، فيحتضنه لعلّه يخفف من آثار الصدمة النفسية التي تعرّض لها بعدما قتلت الطائرات الإسرائيلية عددًا من أفردا عائلته، من بينهم حبيبته الأولى "والدته"، أثناء قصفهم لمنزلهم في غزة في حرب مايو 2021.

حاليا، يسعى والد "أحمد" لدمج طفله الصغير في حلقات التفريغ النفسي في إحدى المخيمات الصيفية الخاصة بالأطفال المضطربين نفسيًا، بعدما نصحه الأطباء بذلك وتجنب العلاج الدوائي، إلا أن هذا الأمر حسب وصف والده يحتاج وقتًا طويلًا، لأن حجم الصدمة كان كبيرًا على طفلٍ شاهد كل ألوان الرعب والخوف.

حال "أحمد" كحال آلاف الأطفال الفلسطينيين في غزة، الذين تعرضوا لاضطرابات نفسية وصدمات عصبية، نتيجة الحروب المتكررة، التي لم تترك شبرًا في غزة إلا وأتت عليها، إما ماديًا أو نفسيًا.

وشنت قوات الاحتلال الإسرائيلي أربع حروب على قطاع غزة منذ أواخر العام 2008 وحتى منتصف العام 2021، راح ضحيتها الآلاف وأصيب عشرات الآلاف، من بينهم مئات الأطفال، عوضا عن تدمير البنية التحتية.

326 ألف طفل في قطاع غزة مسجلون لدى منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، وذكرت المنظمة أنه "قبل هذا التصعيد كان طفل من بين كل 3 أطفال في غزة بحاجة إلى الدعم النفسي لمساعدتهم على التعامل مع العنف والضغط والخوف الذي يتعرضون له في حياتهم اليومية، بسبب الوضع والحصار الإسرائيلي للقطاع، ولا شك أن هذا العدد ازداد بشكل كبير خلال الأيام الماضية".

فيما أظهر مسح أممي عام 2018 أن ربع الأطفال في غزة بحاجة لدعم نفسي بسبب صدمات سابقة.

وفي الوقت الذي يمكن فيه إحصاء الجروح الجسدية، فإنّ هناك جروحاً نفسية وتأثيرات يصعب قياسها بالأرقام المجردة، حيث تعرض أطفال غزة للعديد من الأحداث المؤلمة خلال الحروب على غزة، مثل مشاهد القتل والهدم وسماع أصوات الانفجارات وتعرضهم للخطر في كل لحظةٍ.

وتُهرع وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية، عقب كل مواجهةٍ وحربٍ لتداول أعداد الشهداء والجرحى والخسائر المادية، ولكن ماذا عن الأضرار النفسية التي تصيب مواطني قطاع غزة، ولاسيما الأطفال منهم، في هذا التقرير ترصد "زوايا" الآثار النفسية للحروب الإسرائيلية الأربعة على أطفال قطاع غزة، وتداعياتها، والحلول المتاحة لعلاجها.

لم ينجُ أي طفلٍ

من جهته، يقول الدكتور والأخصائي النفسي محمد أبو السبح، أنه لم ينجُ أي طفل في قطاع غزة من نوع من أنواع الاضطرابات النفسية بسبب الحروب المتكررة على قطاع غزة، مبينًا أن الاضطرابات تتفاوت بحسب قربه من الصدمة واندماجه بها، وقدراته الدفاعية وقوة شخصيته على التحمل.

وبين خلال حديثه لـ"زوايا" أن الاضطرابات النفسية نتيجة الحروب تتراوح بين اضطراب سوء التكيف وسوء المواجهة، وتظهر أعراضها على شكل اضطرابات سلوكية غريبة وعدوانية، إضافة إلى أمراض القلب والتوتر ونوبات الفزع الليلة والتبول اللاإرادي، وسرعة الاستفزاز، والآلام العامة في الجسم، وزيادة العاطفة أو البلادة العاطفية، وحالات اكتئاب عديدة.

وعدّ أيضًا من أسباب الاضطرابات النفسية التي تسببها الحروب، المبالغة في ردود الأطفال العاطفية عند حدوث مؤثر حيث يرتعب من أي صوتٍ، إضافة إلى اضطرابات في النوم وضعف في التركيز، وصدور ردود أفعال متناقضة، ويصبح غير قادر على التحمل ومحبط وتتغير شخصيته، إضافة إلى اضطرابات "نفس جسدية" ونوبات مغص واسهال وإغماء وتشنج.

وأشار إلى أن العديد من الأطفال أصيبوا بـ"بكم اختياري"، حيث لا يتفاعل الطفل مع المحيط، كما أن العديد أصيبوا بـ"كرب الصدمة" و"كرب ما بعد الصدمة"، ويتخيل الطفل على هيئة أحلام وصور وهو متيقّظ، ويصاب بنوبات انفعال شديدة كلما تذكر أحداث الحروب وكلما كان أصغر سنًا، فيما يشعر بتوتر وخوف وينسحب اجتماعيًا كلما كان أكبر سنًا.

كارثة وآثار طويلة المدى

وشدد أن ما حدث في الحروب "كارثة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأن التطورات بعيدة المدى من الممكن أن تتفاقم حالة الطفل النفسية ويصبح الطفل متمردًا ولا ينصاع لأي أمر، مؤكدًا أن الاحتلال استهدف الأطفال في المقام الأول لتدمير البنية الأساسية للمجتمع الفلسطيني.

وعن الأضرار بعيدة المدى، أشار "أبو السبح" إلى أنه من الممكن حدوث اضطرابات سلوكية جانحة، وينتكس "المكبوت" عند حدوث أي موجة عنف مشابهة لما تعرض له سابقًا، ويعود بشكل أسوأ وأخطر من الأولى، وعزا ذلك بقوله "لأنه استهلك الحيل الدفاعية نتيجة تكرار العنف والعدوان، إضافة إلى اهتزاز الشخصية وسرعة الخوف، والاهتزاز في صنع القرار، وحدوث نوبات هلع متقطعة وحالات اكتئاب.

ولفت إلى أن العديد من الأهالي يتجنبون الذهاب للأطباء النفسيين، خوفًا من "الوصمة الاجتماعية" ولا يبحثون عن مساعدة واستشارات نفسية إلا بعد تدهور الحالة.

ونصح أهالي الأطفال الذين يعانون من صدمة، بالتوجه للمراكز النفسية والابتعاد عن الأدوية، مطالبًا بمعاملة الأطفال المصابين باضطرابات نفسية كـ"مصابي حرب"، من أجل علاجهم وتوثيق جرائم الاحتلال، مطالبًا المؤسسات الحكومية بالمساهمة في عمل أبحاث لتجنب الأضرار المستقبلية.

ورأى أن هناك قصورًا في علاج الاضطرابات النفسية في قطاع غزة، وأن حجم العلاج لا يتناسب مع طبيعة "الكارثة النفسية"، وأن المراكز العلاجية لا تقوى على علاج الأعداد الكبيرة للأطفال في قطاع غزة، فهناك 50% من المواطنين تحت سن 15 عامًا، و60% حسب السن القانوني تحت 18 عامًا.

وبين أن الحل يكون التنسيق بين المؤسسات على مستوى وطني، وتقديم برامج دعم وعلاج نفسي جماعية، بالتنسيق بين المؤسسات لمنع ازدواجية الخدمة والتداخل والتناقض، وفرز الحالات التي تحتاج لتدخل طبي مكثف، وتعزيز المرشدين النفسيين في المدارس.

وزارة الصحة بغزة

وقال مدير عام الصحة النفسية في قطاع غزة الدكتور يحيى خضر، أن عددًا كبيرًا من الأطفال تعرضوا لصدمات نفسية خلال الحرب واستمرت آثارها لما بعد الحرب، حيث تظهر أعراض أولية وأعراض متأخرة بعد فترةٍ، وأضحى الأطفال يعانون من مشاكل نفسية عديدة.

وبين خلال حديثه لـ"زوايا" أن الأعراض المتأخرة للأطفال تبدأ عند دخولهم العام الدراسي، حيث يصبحوا فاقدين للتركيز ومتأخرين في الدراسة، بسبب أفكار ومخاف تؤثر على نفسيتهم، مطالبًا الأهالي بالتدخل فورًا عند ظهور أعراض أولية على أبنائهم والتوجه للأخصائي النفسي، كي لا تتفاقم الاضطرابات.

وأشار إلى أن وزارة الصحة عملت بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني والعيادة الصحية والنفسية، وشكلت أكثر من 85 فريقًا نزلوا إلى الشوارع والميادين وقدمت الدعم النفسي للمواطنين الفلسطينيين ومنهم الأطفال، ولا سميا ذوي الشهداء والجرحى والمهدمة بيوتهم، والتعرف على الحالات التي تستدعي تدخلًا أو علاجًا مكثفًا.

ولفت إلى أن وزارة الصحة نظمت زيارات عديدة للمتضررين جراء الحرب، وجلسوا مع ذويهم للاطلاع على نفسيتهم ودراستها، وتحويل المحتاجين للعلاج بشكل مهني.

وبين أن الأعداد المصابة بـ"اضطرابات نفسية نتيجة الحروب" كبيرة، دون وجود إحصائيات رسمية بالأعداد لأن العديد من الحالات يتوجهون لمؤسسات أهلية أو خاصة أو حكومية، مشيرًا إلى أن منظمة الصحة العالمية قبل جائحة كورونا أفادت بوجود 250.000 فلسطيني في غزة يعانون نفسيًا.

أربع حروبٍ وضربات نفسية عميقة

وقال الدكتور جميل الطهراوي، أستاذ الصحة النفسية المشارك في الجامعة الإسلامية، أن الأطفال في غزة قد مروا بظروفٍ صعبةٍ ومواقف مخيفة ومرعبةٍ، واصفًا الحروب بـ"الأحداث الجلل" و"الصارخة"، مضيفا "ليس من السهل أن يشاهد أطفال غزة أربع حروب مدمرة في مسافةٍ زمنية قصيرة ذاقوا خلالها الويلات من دماءٍ وقصف للبيوت وأصوات انفجارات عالية من الطائرات الحربية والمدفعية الإسرائيلية".

وبيّن في حديثه لـ"زوايا" أن الأطفال الفلسطينيين في غزة قد تعرضوا لضرباتٍ نفسية عميقة خلال الحروب، مثل القلق والخوف والنكوص، والتبول اللاإرادي الذي يهدم شخصية الإنسان ويؤثر عليه مستقبلًا، إضافة إلى الكوابيس والفزع الليلي والعودة لأعمالٍ طفوليةٍ.

ووصفَ الاضطرابات النفسية بـ"المتلازمة النفسية" لدى أطفال غزة الذين هدمت الطائرات الإسرائيلية بيوتهم، والتي طالتهم إبان الحروب على غزة، واستمرت آثارها ما بعد الحرب على مدى طويل "اضطراب ما بعد الصدمة"، مشددا "البيت ليس عبارة عن حجارة فقط، بل ذكريات وأدوات دراسية لدى الطفل، وبالإمكان أن يعود البيت أفضل مما كان، ولكن تستمر الصدمة والاضطرابات لما بعد الحرب، بسبب الرعب الذي تعرضوا له خلال سماعهم ومشاهدتهم قصف بيوتهم".

آثار طويلة المدى

وأوضح أن تأثير الحروب على الأطفال يستمر لفترة طويلة في بعض الأحيان، لافتًا أنه عند دراسة أي حالة، يجب الرجوع إلى طفولته فمثلًا عندما نتعامل مع شخص يضرب أطفاله، كنّا نعود لطفولته لنجد أن أباه كان يضربه، منوهًا أنه لا يمكن نسيان الأحداث بسهولة، وهناك العديد من الحالات تدهورت بفعل المناظر المخيفة التي شاهدتها خلال الحرب.

وأشار إلى أن الإحصائيات والأرقام لعدد الأطفال الذين تعرضوا لاضطرابات نفسية خلال الحروب، تحتاج لدراسات علمية، مطالبًا الجهات الرسمية بالاهتمام بهم أكثر، والعمل الجاد من أجل إيجاد حلول لمعضلتهم، التي تتفاقم في بعض الأحيان.

العلاج السلوكي والتفريغ النفسي

من جانبها، قالت الأخصائية النفسية في جمعية "أصدقاء الصحة النفسية" داليا المدهون، أن العلاج السلوكي المتمثل بالتفريغ النفسي لدى الأطفال، مثل الرسم ومطالبة الأطفال بتأمل شيء يجذب انتباههم أو يرسموا حدثًا معينا للتعبير عن أنفسهم من خلال الرسم، وتتم دراسة الرسومات من المرشد النفسي.

واعتبرت أن الرسم طريقة للتعرف على حالة الطفل التي يعيشها مثل القلق والغضب وقياس التطورات العلاجية التي وصل إليها بعد خضوعه للعلاج، منوهةً إلى أن العديد من الحالات تحتاج لجلسات متكررة.

وبينت في حديثها لـ "زوايا" أنها من خلال ممارستها لـ "الصحة النفسية" قدّمت من خلال جمعيات دعمًا نفسيًا للعديد من الأطفال، وقدّمت التوجيهات خلال الحروب، واستكملت العلاج ما بعد الحرب في تقديم "الدعم النفسي" مثل التمارين والرسم، منوهة أن العديد من الحالات احتاجت لتدخل أوسع مثل الزيارات المنزلية المتكررة، لمعالجة الآثار والاضطرابات النفسية.

انتكاسات وتدهور

ولفتت إلى أن العديد من الحالات التي تعرضت للاضطرابات النفسية في الحروب السابقة وتم علاجُها، وتعرضت للانتكاس مرة أخرى خلال الحروب التالية، حيث تعرضوا للتهجير من بيوتِهم والخوف من الموتِ والقصف والأصوات العالية، مشيرة إلى أن البعض ما زال يعيش الحرب حتى بعد انتهاء الحرب ويخاف من صوت بابٍ أو أي صوتٍ عالٍ.

وأكدت على ضرورة تعاون الجميع، وتقديم الخدمات ككل، في العلاج والدعم النفسي، واصفة مراحل العلاج النفسي بـ "التعاوني والتكاملي" لافتة أن العديد من الحالات تم تحويلها من الجمعيات إلى الجهات الأكثر تخصصًا مثل المستشفيات الحكومية أو العيادات النفسية.

للأسرة دور سلبي وإيجابي

وأوضحت أن الأسرة يقع على عاتقها المشاركة في "العلاج والدعم النفسيين"، وأن بعض الأهالي كان لهم دورٌ سلبي في تأجيج الخوف والاضطراب لدى الأطفال، فلم يجد الأطفال الأمان حتى في أحضان والديهم، مطالبة الأهالي بالاتزان النفسي ومحاولة تخفيف آثار الحرب واحتواء الأطفال وأن يكونوا معول بناء لا هدم.

غزة ليست آمنة للأطفال

من جانبها، قالت الناشطة والباحثة في مجال "الصحة النفسية" مادلين إبراهيم، أن المشكلة الحقيقية في قطاع غزة، أنه ليس مكانًا آمنًا للأطفالِ، وأن الآثار النفسية متكررة ومتعاقبة، فما يلبث أن يتعافى بعض المرضى من الآثار النفسية حتى تفاقم حرب أخرى حالتهم النفسية.

ومن خلال معايشتها لبعض الأطفال الذين تعرضوا لاضطرابات نفسية، قالت في حديثها لـ"زوايا": "هناك أطفال تعرضوا لهلوسات وانتكاسات نفسية بفعل الحروب المتكررة، ولم يكفهم العلاج السلوكي في تدارك حالتهم النفسية، بل اضطر الأمر لاصطحابهم للعلاج الدوائي الذي هو آخر الحلول".

ولم تفضل الناشطة استثارة مشاعر الأطفال ونشر فيديوهات وصور لهم عبر "منصات التواصل" عبر اصطحابهم لقبور أمهاتهم وآبائهم، منوهة أن تعامل النشطاء والأقارب مع هذه الحالات تم بطريقة خاطئة، وبما يعزز الحالة العصبية والنفسية للأطفال.

 

المصدر : خاص زوايا- معتز عبد العاطي
atyaf logo