إعمار غزة بين الرغبة والشروط السياسية

دمار بسبب العدوان الإسرائيلي.
دمار بسبب العدوان الإسرائيلي.

بعد إنتهاء الجولة الأخيرة من العدوان على قطاع غزة والتي استمرت نحو أحد عشر يوماً دمرت فيها إسرائيل على ما يزيد من 1400 منزل بشكل كلي ونحو 17 ألفاً بشكل جزئي, فضلاً عن تدمير عدد كبير من المصانع والمؤسسات التجارية، عاد الحديث عن إعمار قطاع غزة من قبل جهات عديدة الى الواجهة, وتسابقت بعض الدول الى طرح المبالغ المخصصة للاعمار , فيما بدأ آخرون في الحديث عن الشروط السياسية الملازمة لعملية الإعمار.

بعض الخبراء قدر أن الخسائر التي نجمت عن العدوان الإسرائيلي الأخير وصلت إلى أكثر من 400مليون دولار, وهناك جهات حكومية في قطاع غزة قدمت أرقاما قريبة من هذا المبلغ.

وبغض النظر عن الخلاف حول حجم الخسائر فإن قطاع غزة يحتاج أصلاً إلى الكثير من عمليات الإصلاح في قطاعات مختلفة , خاصة في مجال البنية التحتية وفي قطاع الكهرباء والتطوير الإقتصادي ومعالجة ظواهر الفقر والبطالة.

إن واقع قطاع غزة يشي بالكثير من المعاناة والمآسي الإنسانية بسبب استمرار الحصار والعقوبات الإسرائيلية المشددة المستمرة منذ اكثر من 15 عاما.

وتظهر بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني أن معدل البطالة في غزة بلغ 49.1%، كما أن معدل البطالة بين الشباب في غزة يبلغ 65%، كما أن 85% من سكان القطاع يعيشون تحت خط الفقر.

وواضح إنه بعد إنتهاء الحرب تنتج زيادة معدلات البطالة والفقر بسبب فقدان الألاف من العاملين فرص عملهم وتوقف حركة الإنتاج لدى الكثير من المصانع والمؤسسات التجارية، وهو ما يفرض تحركاً سريعاً من قبل مختلف الأطراف لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هناك، والعمل على عودة الحياة لمسارها الطبيعي.

(1) إسرائيل..وسياسة العقاب الأبدي

لقد تعرض قطاع غزة خلال العشر سنوات الماضية إلى أربعة حروب ,وفي كل مرة تقوم إسرائيل بتطبيق نفس النهج والأسلوب العسكري الذي يقوم على تعظيم فاتورة الخسائر لدى الجانب الفلسطيني من خلال استهداف المؤسسات الحيوية التي تشكل العمود الفقري للبنية التحتية والاقتصاد المحلي.

والغريب المضحك أن إسرائيل التي تحول قطاع غزة الى كوم من الدمار تسعى جاهدة بعد ذلك إلى الإستفادة من عملية الإعمار من خلال وضع الشروط على الدول التي تريد المشاركة في الإعمار, كما تضع شروطاً قاسية على دخول مواد البناء والمستلزمات الأخرى لعملية الإعمار.

إن إسرائيل تتبع قاعدة ثابتة في التعامل مع قطاع غزة وهي تقوم على أنها (كيان معادي), وأنه لا ينبغي السماح لقطاع غزة بالاستقرار وتطوير مقدراته وموارده الاقتصادية, ومن ثم يبقى القطاع دوماً محتاجاً إلى المساعدات الخارجية, وهي التي تخضع لتحكم إسرائيل كونها الدولة المحتلة التي تسيطر على المعابر والحدود والمياه.

لقد فرضت إسرائيل في حرب عام 2014 الكثير من الشروط على دخول مواد البناء وضيقت الخناق على التجار والموردين والأهالي , وحتى على المؤسسات الدولية, تحت ما يسمى بنظام (GRM , والذي يفرض شروطا قاسية على دخول الاسمنت والحديد. وبسبب ذلك فإن هناك العشرات من المؤسسات والمصانع التي تعرضت للتدمير لا تزال تنتظر إعادة إعمارها إلى اليوم.

وتحاول إسرائيل أن تسرق صورة النصر الذي حققته المقاومة الفلسطينية من خلال وضع العقبات أمام الإعمار وتضليل المجتمع الدولي أن حركة حماس تحاول الإستفادة من عملية الإعمار من خلال الإستيلاء على مواد البناء وغيرها لتطوير قدراتها العسكرية, كما تشدد إسرائيل على ضرورة استعادة جنودها المحتجزين في قطاع غزة منذ حرب 2014 كشرط من أجل تسهيل دخول مواد الاعمار.

وفي هذا الشأن، شدد وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس على أن "إعادة إعمار قطاع غزة مرهون بتسوية قضية الجنود الإسرائيليين الأسرى في القطاع"، معتبراً أن "هناك فرصة أفضل للدفع بهذه القضية في ظل ما فعلته تل أبيب في غزة".

ورغم العلاقة المتوترة التي تربط السلطة باسرائيل إلا أن الأخيرة تحاول الدفع باتجاه مرور المساعدات عن طريق السلطة معتبرة أن ذلك (أخف الضررين) وأنه يمكن المراقبة بشدة على سلوك السلطة وإلزامها بالشروط الإسرائيلية.

وبعد الحرب الأخيرة بادرت إسرائيل وطرحت شروطها السياسية على عملية إعادة الإعمار من خلال إعادة التأكيد على ضرورة وضع الأليات المناسبة والمحكمة من أجل عدم وصول الأموال إلى جيوب حماس التي تحكم قطاع غزة.

إسرائيل تجد نفسها في موقع صعب, فمن ناحية تريد لقطاع غزة أن يبقى تحت رحمة العقوبات الإسرائيلية من أجل الضغط على حركة حماس وفصائل المقاومة ومنعهم من تطوير القدرات العسكرية أو تفعيل النشاط العسكري ضد الاحتلال, ومن ناحية ثانية فان الواقع المأساوي في قطاع غزة ينذر باندلاع المواجهات مرة اخرى وخلق حالة من التوتر والإحتقان الشديد مما يدفع مواطني غزة وفصائلها إلى توجيه غضبها نحو الاحتلال الإسرائيلي.

كما أن إسرائيل تواجه ضغوطاً مستمرة من المجتمع الدولي لرفع الحصار عن قطاع غزة والسماح بدخول المساعدات الإنسانية , الأمر الذي تجد اسرائيل صعوبة كبيره في صده ومنعه.

(2) اللاعبون الدوليون

هناك طرف مهم في معادلة الإعمار وهو المجتمع الدولي، ورغم أن هذا المجتمع ليس متناغماً ولا منسجماً في مواقفه السياسية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلا أن دعم قطاع غزة من الناحية الإنسانية تجد مساحة كبيرة في الاهتمامات الدولية.

وتقف على رأس هذه الدول الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية فضلاً عن الأمم المتحدة التي أعلنت أنها تدعم بقوة توجيه المساعدات إلى قطاع غزة.

أما الدول العربية فهنالك دول بادرت إلى وضع رؤية للمساهمة في إعمار غزة ومن بينها مصر وقطر والكويت.

وتكمن المشكلة الرئيسة هنا في نقطتين , الأولى أنه لا يوجد تنسيق كامل بين هذه الدول في عملية إعادة الإعمار من حيث الرؤية والآليات ,والثانية في أن بعض الوعود لا تجد سبيلها إلى التنفيذ .

بخصوص النقطة الأولى تسعى الولايات المتحدة إلى اعتبار السلطة الفلسطينية هي البوابة الرئيسة لأموال الإعمار , رغم أن إدارة بايدن لا تتمتع بعلاقات قوية مع السلطة بسبب مواقف الإدارة الامريكية تجاه العديد من قضايا الفساد.

وقد سعت السلطة الفلسطينية إلى سد الباب أمام المحاولات لتجاوزها, وأعلنت أن أموال الإعمار يجب أن تمر عبر قنواتها الرسمية، وتخشى السلطة أن تحاول بعض الدول الالتفاف عليها من خلال تحويل الأموال خلال مصر أو من خلال المنظمات الدولية.

من ناحية أخرى فإن مصر بادرت ومن أول يوم إلى طرح أنها يمكن أن تكون القناة لإعادة الإعمار, وقالت أنها خصصت نحو 500 مليون دولار لهذا الغرض ,وأرسلت فرقاً فنية إلى قطاع غزة, كما أن وزير المخابرات المصري زار غزة لأول مرة.

وواضح أن التحرك المصري النشط تجاه الإعمار قد فتح الباب أمام التساؤلات حول عملية الإعمار برمتها من حيث الأموال المخصصة ومن حيث التنسيق بين الدول , كما طرح سؤال مهماً حول التنافس الإقليمي حول الإعمار وإلى أين سيتجه.

أما حركة حماس التي تحكم قطاع غزة فأنها تقول بوضوح أنها معنية وبقوة بتسهيل عملية الإعمار, وترفض كل الإدعاءات التي تقول أنها تحاول توجيه أموال الإعمار عبر قنواتها , وذكر مسئولون في الحركة أن كل ما يهمهم هو وصول الأموال إلى مستحقيها وأن تكون عملية الإعمار شفافة ونزيهة , وأن حماس لن تقف عقبة أمام الإعمار.

حماس التي تتمتع اليوم بشعبية عالية وسط الجمهور الفلسطيني بعد الحرب الأخيرة تجد نفسها أمام تحد كبير لإعمار القطاع وإعادة الحياة إلى مسارها الطبيعي, لذا فانها تسعي من خلال علاقاتها مع مصر ودول أخرى إلى تسريع عملية الإعمار وإعطاء الضمانات بأنها ستفتح الباب واسعاً لمن أراد أن يشارك في عملية الإعمار.

(3) هل تكسب غزة؟

الخشية أن تتحول عملية إعمار غزة إلى نوع من التنافس للحصول على الكعكة وترك غزة بدون اعمار حقيقي , فضلا عن ان الشروط السياسية ستقف عائقا كبيرا امام الاعمار.

لقد سبق ان وعدت غزة بعد حرب 2014 بمليارات الدولارات وسبق لكثير من الدول ان وعدت لكن لم توف بوعدها, وهذا يضع علامة استفهام كبيرة حول ما اذا كانت هناك جدية فعلية لتنفيذ الاعمار أم أن هنالك محاولات لتمييع الامور وتضييع الفرصة تحت شعار انه لا يمكن الاعمار في غزة اذا كانت هناك حروب محتملة في المستقبل.

المعادلة الحقيقية تقول انه لا يمكن ضمان حالة الاستقرار في غزة او في فلسطين عامة دون حل سياسي ينهي هذا النزاع, والا فان الأسباب التي ادت الى اندلاع الحرب الاخيرة لا تزال قائمة, ولا زال الاحتلال يمارس نفس السياسات العدوانية التي تنذر بتفجير المنطقة في أي وقت.

من هنا فان انهاء الاحتلال هو الضمانة الوحيدة لخلق حالة من الاستقرار وفتح الباب امام اعمار حقيقي ممتد.

المصدر : خاص زوايا
atyaf logo