لماذا "صهلل" الجمهور على أخت الصين وروسيا؟!

محمود عباس
محمود عباس

قال المتنبي:"ومن نكد الدنيا على الحّر أن يرى عدواً له ما من صداقته بدُ"

على طول تاريخه، خاض الفلسطيني معاركه مع الجميع، عرب وعجم، الكل كان يريده أداة يستخدمها لمصلحته، وهو المسلوب والمهدد في أمنه وإقامته وترحاله، فكثيرًا ما هادن وانحنى للعاصفة، لكنه أبدًا لم تتسرب الهزيمة إلى نفسه، فاحتفظ بالمساحة التي من خلالها يستطيع أن يرفض دون أن يفنى، فالمطلوب ليس قتل الفلسطيني، فبقتله تفقد الأنظمة بكارة وطنيتها، وينتهي المشهد، لكن المراد هو استخدام الفلسطيني في صراعات الغير وهو ما تنبه له واعترض عليه، فنزل به العقاب!

دار الحديث عن تسريب صوتي منسوب للرئيس محمود عباس - أبو مازن وهو يشتم بإيحاءات جنسية في كل منالصين وروسيا وأمريكا وكل العرب على حد تعبير التسجيل الذي قيل إنه حدث في اجتماع للجنة المركزية لحركة فتح، بعدما طالبه أحد الحضور بتوجيه كلمة بمناسبة مئوية الحزب الشيوعي الصيني! البعض شكك في حقيقة التسجيل، والبعض الآخر رآه يحمل إساءة للغير عوضًا على أنه لا يجب أن يخرج مثل هذا الكلام عن شخص في مكانة الرئيس ومنصبه.

لقد سبق للرئيس محمود عباس أن وصف السفير الأمريكي في تل أبيب فريدمان بالكلب، وقتها أصبح هذا اللقب بمثابة الوصف الأمثل الذي استخدمه عموم الشعب الفلسطيني في تعبيره عن غضبه من إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب جراء ما عرف بصفقة القرن، ولم يرفض الناس هذه الشتيمة بل أقروها وسعدوا بها.

"الوهم هو حقيقة في عقل صاحبه، والحقيقة هي وهم اتفق مجموعة من الناس في لحظة ما على صحته" نجيب سرور

لا شك أن الكثير من الناس لا يتقبلون سماع الشتيمة، ويتساهلون معها إن كانت مأخوذة من صفات الحيوانات، لكنهم لا يتساهلون مع الشتائم التي تأخذ الطابع الجنسي، رغم استعمالهم لها، وهذا ما حصل من بعض الذين أنكروا على الرئيس أن يتلفظ بهذا الألفاظ، ظنًا منهم أن الأشخاص السياسيين لا ينزلون إلى هذا المستوى من الخطابة، وهذا بحد ذاته خطأ كبير، فالسياسيون هم أكثر الناس استخدامًا للشتيمة بكل أنواعها، لكن لم يعتد الناس على خروج هذه الشتائم إلى العلن وسماعها بشكل مباشر، وربما هذا هو ما دفع البعض للتشكيك في مصداقية التسجيل الصوتي من باب أن السياسي أو الرئيس في منزلة أخلاقية أعلى من الشعب.

فهذا التفسير الشعبي له مكون ثقافي مبني على أن طبقة السياسيين هم من النبلاء - إن صح التعبير، ويتمتعون بدرجة تفضيل تجعلهم في محط إعجاب الجماهير لأنهم يتخذون شكلًا اجتماعيًا مغلفًا بالإتيكيت الذي يفرض عليهم سلوكًا وتعاملا معينًا.

"في بريطانيا بتقولوا عليا كلب، طيب أنتوا ولاد ستين كلب"جمال عبد الناصر

بالعادة تستخدم الشتائم والاهانات في التفريغ عن النفس، وهي بذلك تأخذ شكلًا غير منضبط، فتكون الشتيمة هي الطريقة الأخيرة في التعامل مع الخصم، بعد استنفاذ كل الجهود الدبلوماسية بينهما، لهذا تعتبر الشتيمة مبحث غاية في التعقيد لأنها تختلط فيها العوامل النفسية بالاجتماعية، باللغوية أيضًا، وكثيرًا ما تأخذ الشتيمة قوتها من الإيحاء الجنسي الخاص بالمرأة، فنجد أن استخدام المرأة في طريقة ولغة الشتم أكثر من غيرها، وذلك بسبب ثقافة المجتمع الذي يجد في المرأة مكانًا مناسبًا للحط من شخصية الرجل بشتم ما يخصه من إناث!

يرى فرويد في تفسيره للشتيمة بأنها "ردَّ فعلٍ لفظيًّا على إحباطٍ أو فشل" فالشتيمة والسباب في منظور علم النفس ينشئ نتيجة شعور الفرد بالمهانة والضعف، فيلجأ إلى الشتيمة للتعويض والوصول إلى حالة نفسية مرضية، إلا أن أراء أخرى تجد في منطق الشتيمة منطقًا سليمًا يصل بصاحبه إلى درجة معقولة من السلام النفسي.

حيث ترى الكاتبة البريطانية ليندسي دودجسون أن "استخدام اللغة البذيئة يمنح المرء القدرة على التعبير بشكل أفضل عما يجول في خاطره، أكثر من استخدام اللغة الانضباطية.. كما تساعدنا في تخفيف الآلام الناتجة عن الضغط النفسي"

"الحق أقول لكم:
لا حق لي أن ضاعت حقوق الأموات
لا حق لميت أن يهتك عرض الكلمات
وإذا كان عذاب الموتى أصبح سلعة
أو أحجبة أو أيقونة أو إعلانا أو نيشانا
فعلى العصر اللعنة
والطوفان قريب" نجيب سرور

إن كان ينظر للشتيمة بأنها باب من أبواب التنفسي، فهي كذلك للشعب، ولا أري غضاضة من استعمال الناس للشتيمة في الاعتراض على ظلم وقع عليهم من قبل السلطات الحاكمة، فهذه تعتبر من جوارح الكلام التي لا يعاقب عليها القانون، وتأتي في سياقها ودلالاتها النفسية والاجتماعية، وقد يعترض عليها البعض من باب المغالاة في المثالية الأخلاقية، نتيجة عدم شعورهم بالظلم الواقع على غيرهم، لكني لا أعتقد أن من مهام السياسي صاحب السلطة أن يقوم بالشتم والسباب، فبالأساس الشتم تعبير عن العجز. كما قال الأديب النمساوي ماندكه.

"اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية،بعضكم سيقول بذيئة، لا بأس.. أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه" مظفر النواب

لقد لاقت شتيمة الرئيس المفترضة في التسجيل المسرب قبولًا شعبيًا واسعًا، وإن تم تحت ستار الفكاهة، لكنه في الحقيقة قبولًا ليس للشتيمة بحد ذاتها، بل لروح الرفض التي فقدها الشعب في الكثير من شخوص قيادته الجديدة التي استمرأت المناصب والجاح الكاذب والمال المسيس في سبيل الخنوع واستخدام لغة الاستجداء وطلب المعونة بروح مكسورة.

لقد تعرض الشعب الفلسطيني إلى خذلان كبير من معظم دول العالم، خاصة في ظل موجة التطبيع العربية الأخيرة، مما أشعره بأنه أصبح غير مهيوب الجناح كما كان في السابق عندما كان يدور فيها في أغلب عواصم العالم حاملًا قضيته ومظلوميته شاهرًا بندقيته في وجه الجميع وهو صاحب الصوت في البيان العسكري الأول للعاصفة في أعقاب تنفيذ عملية نفق عيلبون عام 1964:" كما وأننا نحذر جميع الدول من التدخل لصالح العدو بأي شكل كان، لأن قواتنا سترد على هذا العمل بتعريض مصالح الدول للدمار أينما كانت"

هذه هي الروح التي كان عليها الفلسطيني والتي يطوقإليها الآن، لأنها هي من صانت كرامته في وقت كانت الكرامة هي كل ما يملكه بعدما فقد أرضه.

المصدر : خاص زوايا
atyaf logo