(1) التأرجح بين المضي والتأجيل
تمر الانتخابات الفلسطينية في منعطف خطير, ربما يتسبب في كثير من التداعيات في المستقبل على مجمل الوضع الفلسطيني.
الانتخابات لا تزال تتأرجح بين التنفيذ والتعطيل , وتعيش الاوساط الفلسطينية حالة من الضبابية الشديدة في تحديد مسار الانتخابات, ويسود شعور عند البعض بأن الانتخابات سيجري تأجيلها الى أجل غير مسمى وذلك لاسباب عديدة, وصدرت بعض التصريحات التي عززت هذا الشعور , فيما تؤكد الاوساط الرسمية على أنها ماضية في اجراء الانتخابات.
الانتخابات الفلسطينية أصبحت اليوم أمام معضلات كبيرة , منها ما هو ذاتي مثل ما تتعرض له حركة فتح من انقسامات, ومنها ما هو متعلق بموقف دولة الاحتلال وخاصة اجراؤها في مدينة القدس المحتلة ,ومنها ما هو متعلق بموقف المجتمع الدولي الذي لا يزال متأرجحا بين التأييد والصمت والمعارضة .
ومع مرور الوقت تبرز إشكالات وتساؤلات , بل وتحديات , جديدة تزيد من حالة الشك في إجرائها وفي قدرتها على اخراج الفلسطينيين من حالة الاستعصاء السياسي والوطني ، كما ان هناك من يتخوف من مرحلة ما بعد الانتخابات وفي قدرة الفلسطينيين على تقديم معالجات واضحة وعملية لانهاء الانقسام بشكل حقيقي وفي اعادة ترتيب البيت الفلسطيني ,وهذا ما يجعل البعض يفكر بأن الانتخابات قد تكون نوعا من انواع (المغامرة) غير المحسوبة.
اقرأ أيضاً: متذيلو قوائم الانتخابات التشريعية.. لماذا يخوضون منافسة خاسرة؟
بغض النظر عن كل التحليلات التي سيقت لتبرير الانتخابات من عدمها , فان الفلسطينيين بشكل عام توجهوا لخيار الانتخابات بعد فشل مسار المصالحة الوطنية , ووجدوا فيه المخرج الوحيد الذي يمكن ان تلتقي عليه القوى السياسية تحت قبة البرلمان, كما ظانه يشكل الخطوة الاولى نحو اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.
قد تكون هناك العديد من العوامل التي تقف حجر عثرة في وجه الانتخابات من بينها غياب التوافق الوطني والاستراتيجية الوطنية، وكذلك العدد الكبير من القوائم الانتخابية، فضلا عن غياب أي ضمانات دولية لاجراء الانتخابات او حتى الاعتراف بنتائجها , كما أن حركة حماس لا تزال في منظور الاتحاد الاوروبي والادارة الامريكية حركة (ارهابية) , مما يصعب التعامل مع النظام السياسي الفلسطيني بشكل طبيعي, خصوصا اذا تصدرت حماس المشهد السياسي بفوزها بعدد كبير من المقاعد في البرلمان.
لا شك أن الشعب الفلسطيني يتطلع إلى ممارسة حقه الانتخابي، وفي اختيار من يمثله في النظام السياسي والمؤسسات الشرعية المنتخبة بعد انقطاع عن ممارسة هذا الحق لاكثر من 16 عاما , كما أنه يتوق بشدة الى طي صفحة الانقسام ومعالجة الاوضاع الانسانية القاسية في قطاع غزة على وجه الخصوص ، لذلك فان تأجيل الانتخابات او الغائها ستسبب في نكسة كبيرة وفي خلق حالة من الاحباط والتيه السياسي. ان تأجيل الانتخابات يعني بالضرورة ابقاء غول الانقسام الى اجل غير مسمى, والى نزع الشرعية عن النظام السياسي الفلسطيني في المحافل الدولية , وهذا سيغري اسرائيل بان تواصل مخططاتها واجراءاتها القمعية في الاراضي الفلسطينية بما يشمل توسيع مساحة الاستيطان وتهويد مدينة القدس وفي التنكر التام لحقوق الفلسطينيين الشرعية.
(2) اسرائيل والمصلحة المزدوجة
إسرائيل من جهتها تريد أن تلعب على أكثر من حبل !! فهي لا تريد ان تظهر أمام العالم انها ترفض اجراءات الانتخابات، وهي التي اجرت خلال عام اربع انتخابات نيابية , وفي نفس الوقت لا تريد السماح باجراء الانتخابات الفلسطينية لاسباب سياسية وامنية . فمن ناحية أمنية ترى الاجهزة الامنية الاسرائيلية في فوز حركة حماس خطورة كبيرة على أمنها , خاصة في منطقة الضفة الغربية التي بدأت تشهد نشاطا لانصار حركة حماس , وان ذلك قد ينشط مجموعات المقاومة وفي تحريك الحالة الشعبية تجاه التصعيد مع الاحتلال .
لذلك صدرت اشارات أمنية اسرائيلية تقول بأنها بصدد التحضير لمواجهة هذا التطور الخطير الذي يلزم اسرائيل بالقيام بخطوات واجراءات عملية لعرقلة الانتخابات خاصة في القدس وفي المناطق المسماة (ج) وهي التي تخضع للسيطرة الامنية الاسرائيلية. اما من ناحية سياسية, فان اسرائيل تتخوف بشكل كبير من استعادة الوحدة الوطنية, مما يشكل ورقة قوة للفلسطينيين في المطالبة بحقوقهم وفي مواجهة الرواية الاسرائيلية.
لذلك فان إسرائيل ترى ان هدفها الاستراتيجي هو استمرار الانقسام وفي ضعف السلطة الفلسطينية وفي عدم تجديد الشرعية السياسية للنظام الفلسطيني.
كما أن صعود حماس وبعض القوى المناوئة لاتفاق اوسلو قد تشكل تغيرا جذريا في رسم الخارطة السياسية في الاراضي الفلسطينية وفي تبني استراتيجية جديدة تقوم على عدم الاعتراف باسرائيل او الاتفاقيات التي وقعت معها.
حتى هذه اللحظة لم يصدر عن المستوى الرسمي الإسرائيلي أي قرار بالسماح او بالمنع , وهذا يفسر على ان اسرائيل تريد ان تشكل حالة ضغط مستمرة على الفلسطينيين حتى اللحظة الاخيرة, اوفي ابتزاز هذه اللحظة السياسية لتحقيق عدد من المكاسب.
الأخطر من ذلك ,أن دولة الاحتلال ,وبعد اعتراف الرئيس الامريكي السابق ترامب بان القدس عاصمة لاسرائيل لا تريد ان تعود للوراء وتسلم بان القدس لا تزال موضوعة على طاولة التفاوض, وتعتبر ان قرار ترامب, ومن ثم صمت ادارة بايدن, شكل لها فرصة ذهبية لاقناع العالم بان القدس هي عاصمة لهم وانه لا مجال لمنح الفلسطينيين مساحة سياسية لممارسة حقهم في الاقتراع او الترشيح .
موقف اسرائيل من الانتخابات الفلسطينية سيكون حاسما في الايام القليلة القادمة, فإما أن تنجح الضغوط الدولية والإصرار الفلسطيني على دفعها للسماح باجرائها او ان تتجه الامور الى التصعيد وتسخين الاوضاع.
(3) القدس ..التحدي الاكبر
تضمنت "اتفاقية المرحلة الانتقالية" المبرمة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل والموقعة بواشنطن في 28 سبتمبر/أيلول 1995، ملحقا خاصا يتعلق بالانتخابات الفلسطينية.
وجاء في نص المادة (6) "يتمّ الاقتراع في القدس الشرقية في مكاتب بريد تتبع سلطة البريد الإسرائيلية".
وسبق للفلسطينيين من سكان القدس، أن شاركوا في الانتخابات في الأعوام 1996 و2005 و2006 ضمن ترتيبات خاصة متفق عليها، جرى بموجبها الاقتراع في مقرات البريد الإسرائيلي، وبإشراف موظفي البريد نفسه.
العقبة الكبرى في طريق الانتخابات هي إمكانية إجراؤها في مدينة القدس المحتلة .
هناك شبه إجماع بين القوى السياسية والفصائل الفلسطينية على أنه لا انتخابات بدون القدس, كذلك فان الإجراءات الإسرائيلية اليومية في القدس والتي تركز على ملاحقة المرشحين وتهديدهم واعتقالهم تشير إلى أن إسرائيل ترفض أي تمثيل سياسي للفلسطينيين في المدينة المقدسة.
اقرأ أيضا: (فيديو) الحقوقي البارز عصام يونس: اعتبار الانتخابات نقطة البداية لتفكيك الأزمات محل شك
إن قضية القدس لا ترتبط فقط بموضوع الانتخابات بقدر ما تشكل العمود الفقري للقضية الفلسطينية , ولا يمكن بحال اختزالها في صناديق الاقتراع , خاصة في ظل ما تعرض له اليوم من عملية تهويد ممنهجة وتهجير للفلسطينيين منها وفي تسويقها على انها عاصمة لاسرائيل امام المجتمع الدولي . ولا تزال القدس تشكل العنوان الأكبر للمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي من أجل الحفاظ على هويتها الفلسطينية وعروبتها.
قد يكون موقف إسرائيل متوقعاً كونها قوة احتلال ليس من مصلحتها بأي شكل من الاشكال أن تعزز من القوة السياسية للفلسطينيين أو تمنحهم فرصة لكسر حدة الانقسام, لكن الغريب هو في موقف الإدارة الامريكية برئاسة بايدن, والتي كان يتوقع الكثيرون أن تنهج سياسة مختلفة في التعامل مع ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
السلطة تشعر بالغضب الشديد من موقف إدارة بايدن التي اتضح أنها لا يوجد لديها أي توجه لتصحيح ما ارتكبته الإدارة السابقة برئاسة ترامب ,خاصة في الوضع السياسي لمدينة القدس. ادارة بادين لم تعط أي اشارة مشجعة بخصوص اجراء الانتخابات ونقلت رسائل غير مباشرة من أنها (تتفهم) موقف السلطة اذا قامت بتأجيل الانتخابات , في اشارة واضحة انها لا تريد أن تمارس أي ضغط على اسرائيل لإلزامها بالسماح للفلسطينيين وبممارسة حقهم –ترشيحاً وانتخاباً- في القدس المحتلة.
الإدارة الأمريكية التي تدعي أنها تدعم الديمقراطيات في العالم وتساند ملف حقوق الإنسان تقف اليوم موقفاً سلبياً بل ومعارضاً لإجراء انتخابات فلسطينية ديمقراطية.
هذا يكشف عن الوجه الأخر لإدارة بايدن التي تصر على دعم تفوق دولة الاحتلال عسكرياً وأمنياً وفي التنكر للتطلعات الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني, وتصر على أنها ليست بصدد تصحيح أخطاء ادارة ترامب, والاخطر انها تسوق على انها لن تتدخل في ملف الصراع القائم في المنطقة بما يضمن تنفيذ الشعارات التي تبنتها الادارات الامريكية المتعاقبة والقائمة على حل الدولتين .
عدم السماح باجراء الانتخابات في القدس يعني انه لا انتخابات بعد ذلك !! وان مصير الفلسطينيين ونظامهم السياسي سيكون معلقا الى أجل غير مسمى ,وهذا يعني بالضرورة انه لن تكون شرعية سياسية للنظام السياسي الفلسطيني ولن تكون مسيرة سياسية .
هذه الحالة الضبابية التي لا تسمح للفلسطينيين بممارسة حقهم الديمقراطي قد تدفعهم الى التفكير بخيارات وبدائل اخرى اذا سدت في وجوههم الابواب ومن بينها اللجوء الى خيار التصعيد مع الاحتلال.
لهذا فان الامر منوط بالفلسطينيين اولا وقبل كل شيء أن يقرروا الى اين سيتوجهون في المرحلة القادمة وفي ان يفرضوا معادلة سياسية مختلفة رغم كل الظروف القاسية التي تحيط بهم من كل جانب , عربيا ودوليا .
وواضح أن هذه المعركة السياسية ستكون حامية الوطيس وأن أطرافاً كثيرة لن تقدم الدعم السياسي المطلوب للفلسطينيين كي يقفوا على أرجلهم ويمهدوا طريقهم لاستعادة وحدتهم الوطنية, مما يستلزم منهم أن يغيروا الاحصنة التي راهنوا عليها كثيرا.
بقلم: د.غازي حمد