تكنولوجيا القمع.. من سلطة الدولة المحلية إلى العالمية

لم ينتهي التناقض بين الصحفيين والسلطات التنفيذية والأمنية في أي بلد، ولن ينتهي، ففي كل دول العالم تُنتهك حقوق الصحفيين وتُفرض على عملهم قيود تحد من حرية عملهم، وحرية ابداء الرأي ونقل المعلومات، وان كان هذا يتم بشكل متفاوت من دولة لدولة تبعاً لطبيعة النظم الحاكمة، ورخاوة أو اشتداد قبضتها على صحفييها ومواطنيها عموماً.


ومع تسارع التطورات التكنولوجية، وانتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية الألفية الجارية، استبشر البعض خيراً، واعتقد ان هامش الحرية بدأ يتسع ويفلت من قبضة الدولة، وهو ما حدا بالكثير من المهتمين والباحثين في حقل الاعلام والمراقبين لحرية الرأي والتعبير الى اطلاق مصطلح ( تكنولوجيا الحرية ) على وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الالكتروني عموماً، اعتقاداً بأن هذا الفضاء اتاح افلات المواطنين والصحفيين من الرقابة، وسبل التدخل في عملهم.


اقرأ أيضاً: الانتخابات الفلسطينية على شفا التأجيل.. ماذا يجري في الكواليس؟


لكن الحقيقة هي غير ذلك، فاغلب الدول طورت أساليب تعقب للصحفيين وما يقدمونه باستخدام ذات التكنولوجيا، فهي متاحة للسلطات التنفيذية وأجهزة الأمن كما هي للصحفيين والنشطاء، بل أن استفادة الدول منها كانت اعلى من الافراد بسبب امتلاكها امكانيات وقدرات متطورة تتيح لها الولوج الى ما يعتقد الصحفيون أنه آمن، بما في ذلك المحادثات الخاصة، سواء الهاتفية أو عبر وسائل الأتصال الأحدث مثل الماسنجر والواتس آب وغيرها من التطبيقات، ومعه باتت خصوصيات الصحفيين عرضة للمتابعة والانكشاف، وتقلص هامش حماية الصحفي لمصادر معلوماته، وهو مبدأ اساس مقدس في عمل الصحفيين، من شأن فقدانه، الحاق اضرار كبيرة بالعمل الصحفي، هذا أولاً.


وثانياً: فقد أوجدت معظم دول العالم آليات لمراقبة المحتوى المنشور، أما عبر التتبع البشري، وأما عبر ما يعرف بالوغاريتمات والكلمات المفتاحية. وثالثاً فقد اوجدت العديد من الدول، وخاصة العربية ودول الانظمة الشمولية والقمعية، قوانين خاصة تتعلق بالفضاء الالكتروني، مستضلة بالحاجة لتنظيم التعامل بالوسائل الالكترونية، وفرضت قيوداً اوسع على الصحفيين، وعلى ما بات يعرف بالمواطن الصحفي، والمواطنين عموماً، وباتت اجراءاتها العقابية تطال ما يكتب في الواقع الافتراضي، أضافة الى الصور والكاريكاتور.


بيد أن الحقيقة الأوضح، هي انتقال الرقابة وتقييد المحتوى من قبضة السلطات المحلية، الى قبضة السلطات العالمية، أي أدارات وسائل التواصل الاجتماعي، واغلبها أمريكية، التي باتت المنتهك الأول والأكثر شمولية لحرية الرأي والتعبير، بل باتت تتحكم في بعض التعابير والكلمات بغض النظر عن سياق استخدامها، ففي اللغة العربية بات كل منشور أو تعليق يحتوي كلمات مثل شهيد، أو حماس، أو الجهاد الأسلامي، أو الجبهة الشعبية، أو داعش تحذف تلقائياً، وقد يتبعها معاقبة الكاتب بالحظر المؤقت أو الدائم للتعليق، أو استخدام خاصية البث المباشر، وتصل حد اغلاق الحساب ككل، ويتم ذلك دون النظر الى السياق التي تستخدم فيه مثل هذه الكلمات، فحتى لو ورد ذكر بعض هذه الكلمات في سياق النقد أو المعارضة فهي عرضة للحذف.


وفي هذا اقرار واضح على تحول الرقابة وادوات التنفيذ من المحلية الى العالمية، ونقل لسيف العقوبات والانتهاكات من يد الدولة الى يد ادارات مواقع التواصل.


 فإن السلطات المحلية تلجأ إلى إدارات مواقع التواصل لطلب الحجب أو ازالة المحتوى حال عجزت هي عن فعل ذلك، حيث تخصص ادارات مواقع التواصل اقساماً خاصة للتعامل مع هذه الطلبات والشكاوى، ووفقاً للمعطيات فان ادارة موقع فيس بوك لوحدها تلقت عام 2018 أكثر من مئتي الف طلب رسمي من المحاكم وهيئات انفاذ القانون والجهات التنفيذية من مختلف دول العالم لحذف محتوى لصحفيين ونشطاء.


وتخصص العديد من اجهزة الأمن وحدات خاصة للمتابعة والرقابة الالكترونية، ابرزها الوحدة 8200 وهي فيلق تابع للمخابرات الاسرائيلية، مسؤل عن التجسس الالكتروني ومراقبة المحتوى الذي ينشره الفلسطينيون، وهي الجهة الأكثر تقديماً للشكاوى وطلبات الحجب والازالة لدى مواقع التواصل الاجتماعي.


اضافة لذلك، فقد منحت ادارة فيس بوك لنفسها حق تصنيف الصحفيين ومنح بعضهم صفة المهنية والموثوقية، عبر وضع اشارة (الصح الأزرق) على حساباتهم، ونصبت نفسها بذلك بديلاً عن الاطر التي تنظم عمل الصحفيين من نقابات وجمعيات واتحادات محلية ودولية، وفي هذا تدخل فج وسافر في المعايير والأسس المتبعة لتصنيف الصحفيين.


اقرأ أيضا: موظفو حكومة غزة يكسرون صمتهم ويطالبون بحقوقهم المتراكمة

وأبعد من ذلك، فان رقابة السلطة العالمية المستجدة، تطال بعض الشخصيات والمنظمات والكيانات، لاعتبارات سياسية محضة، فقد تم حظر صفحات رؤساء بعض الدول مثل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وبعض الشخصيات الرسمية الايرانية، وصفحات منظمات مثل داعش وحزب الله وعدد من المنظات الفلسطينية.


وفي مستجد آخر، فان الرقابة العالمية المستجدة، باتت تؤثر على مجرى الانتخابات في بعض الدول، وتفرض مسطرتها بما يؤثر على الخيارات الديمقراطية للناخبين، بما في ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حيث حذف أو أثرت عبر وضع عبارة " غير موثوق"، على العديد من التغريدات والمحتوى المتعلق بالانتخابات الأخيرة، وصولاً الى حظر واغلاق حساب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.


وفي ذات السياق يجري التدخل في العملية الانتخابية الفلسطينية الجارية، عبر حظر صفحات القوائم الانتخابية " القدس موعدنا، ونبض الشعب"، حيث رفضت ادارة فيس بوك التعامل معها كقوائم انتخابية لها الحق اسوة بغيرها في الدعاية الانتخابية، وربطتها في الفصائل التي تمثلها هذه القوائم.


في الخلاصة، فان ما خلص اليه بعض المهتمين باطلاق مصطلح " تكنولوجيا الحرية" اعتقاداً بان هذه التكنولوجيا تتيح هامشاً أوسع من الحرية، كان متسرعاً وخاطئاً، بعدما اتضح ان هذه التكنولوجيا هي في الواقع " تكنولوجيا القمع" والتقييد، والتدخل السافر في المضامين والاتجاهات.


 بقلم عمر نزال

مواضيع ذات صلة

atyaf logo