يغادر المواطن الفلسطيني مكان بسطته الذي مكث فيه سنوات عديدة، بثيابه المهلهلة وبكثير من الحزن، وبشيءٍ من الوعد والأمل، يحمل حاجياتِه البسيطة هربا من مصادرتها من قبل شرطة البلديات، التي شنت حملة على البسطات، التي يتخذها المئات من المواطنين مصدرا أساسيا لإعالة أسرهم في زقاق الحصار وشوارع الفقر وحواري البؤس والحروب، وتقضِي على آخر آمالهم بالعيش بكرامة، كما يقول أصحاب البسطات.
وأضاف أصحاب البسطات في أحاديث منفصلة لموقع "زوايا" أن البلديات تواجههم بتبريرات ضعيفة وحجج غير مقنعة، لتصادر قوت عيالهم، وتجني الكثير من الأموال والضرائب بحجة تحسين المظهر العام.
حربٌ مشتعلةٌ
وأعلنت بلدية غزة أواخر العام الماضي، أنها شرعت في تنظيم الواجهة البحرية على شاطئ غزة، باستبدال بسطات المواطنين البسيطة بأكشاك ثابتة مقابل برسوم سنوية ثابتة تقدر بـ 2100 دولار أمريكي، مزودة بالماء والكهرباء.
وفي مُخيم جباليا شمال قطاع غزة، كانت بسطات المستورين، منتشرة في سوق مخيم جباليا للاجئين، وفي محيط مقر توزيع المساعدات "الكوبونات" من قبل وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، وعيادة الوكالة، لتستبدلها اللجنةُ الشعبية (تديرها حماس) في شهر يناير الماضي، بأكشاك حديدية تجارية صغيرة المساحة للغاية، إيجار الواحد أكثر من 2000 شيكل سنويًا، في ظل وضع اقتصادي صعب ومترهل.
ردودٌ غاضبةٌ
بشعره الأشعث وبوجه مليء بالتجاعيد، التي أكلت عليها هموم ادّنيا، يتساءل المواطن أبو كمال "55 عامًا"، وهو أحد بائعي البسطات على شاطئ بحر غزة "كيف لي أن أدفع 2100 دولار في العام، وأنا أُحصّل أقل من 25 شيكلًا يوميًا من بيع الذرة؟!".
ويتساءلُ "خليل سعد" في حديثه لموقع "زوايا": "إن كانت اللجان والبلديات حريصة على النظافة والمواطن، فلماذا استبدلوا البسطات بالأكشاكِ، والأطفال المارون ليس لهم طريق إلى الشارع، بعد ان احتلت البلدية الرصيف كاملا لصالحها، بحجة تنظيم البسطات بشكل حضاري على شاطئ البحر"، واصفاً البلدية بأنها "اغتصبت حق المواطنين في السير على الرصيف تجنبا للحوادث المرورية، من أجل الجباية المالية".
وبكثير من الغضب يقول المواطن سليم "أجزم بأن فكرة الأكشاك ليست من أجل النظافة، بل هي من أجل جمع الأموال والإيجارات ليس أكثر، وهم لا يخافون على النظافة وجمال المنظر، بل على جمع المال".
اقرأ أيضا: خاص لـ”زوايا”: قرار فتحاوي بمنع قيادات الحركة من خوض الانتخابات
ويعلّق فادي شقورة بسخرية "جمع المال جميل جداً"، فيرد عليه أحدهم "هل الأكشاك مجانًا أم إيجار؟"، ويرد آخر بسخريةٍ شديدة "مجانًا والبضاعة من الحكومة أيضًا".
ويستهجنُ أحد الغلابة من أصحاب البسطات "محمد لبد"، وهو خريج جامعي يحمل شهادة البكالوريوس في التعليم الأساسي، ومن الذين غادروا مكان عملهم، في حديثـه لموقع "زوايا"، قائلًا: "ألم يكن قديمًا تعمل البلدية والشرطة لإزالة البسطات والأكشاك الموجودة على الرصيف، لأنها مخالفةِ وتعرقل حركة الناس، إذن فلماذا وُضعت الأكشاك على أرصفة الشوارع؟!"
ويفنّد مصطفى أبو هربيد أحد البائعين في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، ما قالته اللجنة "أن مشروع الأكشاك ما هو إلا لتنظيم الحركة"، قائلاً: "عندما تكون مجانية سنقولُ حينها بأنها من أجل أصحاب لقمة العيش، وطالما أنها بالإيجار، فهي مشروع استثماري".
وبغضبٍ شديدٍ يطالبُ نضال عاشور في أحد أرصفة الجندي المجهول بغزة، البلدية بالسماح لهم بمواصلة عملهم، ليحصلوا على قوتِ يومهم، في ظل الإغلاق بسبب كورونا، والأوضاع الاقتصادية الصعبة.
ويدافعُ أحدهم عن قرار البلدية "تتحدثون عن أن الهدف جباية، وطالما أن المستأجر كأي عمل تجاري، فأين المشكلة؟" فيجيبُه "خالد وليد"، وهو أحد أبناء المخيم، "المشكلة عندما يكون العامل من أول النهار لآخره يعمل على بسطة من أجل أن يستر نفسه وعائلته، وبعد ذلك تفرض عليه البلدية رسومًا إجبارية، وإما أن تدفع أو تغادر". مواصلًا حديثه " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
وأثار قرار البلديات، جدلا واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الأرضِ، ولاقت ردودَ فعل غاضبة، في ظل صعوبة الحصول على لقمة العيش، والكساد التي يضرب قطاع غزة، ولا سيما في ظل جائحة كورونا، فهل يستطيع المواطن الغلبان أن يُحصّل ثمن الإيجار الباهظ في ظل أوضاع متردية اقتصاديًا، من بيع أكواز الذرة، والقهوة والشاي؟!
تظاهرات واحتجاجات
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، التي تعصفُ بقطاع غزة، من حصار وارتفاع نسبة البطالة، احتج أصحاب البسطات والباعة بغزة، إبان جائحة كورونا، اعتراضا على سوء حالتهم، واستمرار إغلاق الأسواق لفترة طويلة.
وطالب أصحاب البسطات لعدة مرات خلال الجائحة، بإيجاد حل سريع لهم، رافعين شعار "بدنا نأكل بدنا نعيش"، مناشدين بتعويضهم.
اقرأ أيضا: بالضربة القاضية.. كورونا تفتك بعمال غزة والمساعدات شعارات
ويعاني أصحاب البسطات قبل الجائحة من الملاحقة وضيق العيش وقلة البيع، وجاءت جائح كورونا لتزيد الطين بلة، وتغرق أصحاب البسطات في وحل الفقر المدقع، وتستنزفُ بقاياهم المشتتة، بفعل كل ألوان العذاب في قطاع غزة.
حلول مؤقتة
رئيس بلدية غزة يحيى السّراج صرح في كانون ثاني/يناير الماضي، أن موضوع البسطات يتطلب تعاونا وتفهما من الجميع، مشيرا إلى أن جائحة كورونا سببت ضررا لأصحاب البسطات، وإمكانية العمل لتحصيل قوت يومهم.
وأوضح "السرّاج" بأن البلدية تعمل على إيجاد حلول سريعة ومؤقتة، مبينا أن هناك بسطات تجاوزت الرصيف بعدة أمتار، ووصفها بوسيلة استغلال، وتسبب ضررا كبيرا وحوادث طرق، وأن بعض أصحاب البسطات يتصرفون وكأنهم يملكون الشارع".
تنظيم البسطات
وقال رئيس اللجنة الشعبية بشمال قطاع غزة، نسيم الكرد، في حديث خاص لموقع "زوايا" أن موضوع الأكشاك على الرصيف، صبَّ في مصلحة البائع، لأنها وفّرت عليه أموالا كثيرة، فبعدما كانوا يدفعوا قرابة 500-1000 شيكل شهريا من تحميل وتخزين وإيجار بعقود غير قانونية، أصبح يدفع 2000 شيكل سنويا مقابل كل ذلك وبشكل قانوني.
وأكد رئيس اللجنة التي تمثل تقريباً بلدية في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، أن البسطات العشوائية التي كانت تحتل منطقة المؤن ومعسكر جباليا، كانت تعج بالمشاكل التي تصل للتضارب وحرق البضائع بين البائعين، وأن البعض حاول الاعتراض وتسييس الأمور.
وبيّن أن القرار أتى بإجماع بين الفصائل والبلديات ونواب التشريعي من أجل تنظيم عمل البسطات، التي كانت تشغل الشرطة بقضايا اعتداء ومشاكل شبه يومية.
وردًا على حديث أحد البائعين بأن "اللجان همّها جمع الأموال وليس المنظر الحضاري للمخيم"، أجاب بالقول: "لو أن هذا الكلام صحيحا، لما كنا سننتظر ثلاثة أعوامٍ قادمة لجمع تكاليف مشاريع الأكشاك، التي تم تجهيزها لهذا الغرض".
وأشار "نحتفظ بعقود وهمية وغير قانونية تصل لآلاف الدنانير الأردنية (1 دولار = 7 دينار أردني) بين البائعين الذي كانوا يسيطرون بشكل عشوائي على المنطقة".
السوق خلف مركز شرطة جباليا
وأفاد "الكرد" بأن السوق خلف مركز شرطة جباليا، تبلغ مساحته قرابة الدونمين، ومجهز برفاهية كاملة للبائعين، وهو من الباطون، وتبلغ مساحة الكشك الواحد أربعة أمتار مربعة (2م*2م).
ولفت إلى وجود ألواح من الزينقو، لحمايته من الأمطار شتاءً وحرارة الشمس صيفًا، ويوجد به حمامات ونقاط مياه وإطفائية وغيرها من الخدمات المميزة، ويتراوح إيجار الكشك حسب موقعه من 2000 – 2500 شيكل.
ونفى في حديثه لـ"زوايا" أن يكون السوق قد استحوذ على جزء من مساحة مركز شرطة جباليا، وأن الأرض كانت تعودُ قديما، أي قبل افتتاح الشارع هناك، لجميعة "واصل" الخيرية" في جزءٍ منه، والجزء الآخر كان يعودُ للأمن.
وعن المحلات المحاذية لمركز شرطة جباليا والمحيطة به، وهي مختلفة تماما عن السوق، قال "الكرد" إن المحلات تعود لوزارة الداخلية في شمال قطاع غزة، ولا علاقة للبلدية أو اللجنة الشعبية بها، وأن العوائد المالية تعود للداخلية.
منطقة الجندي المجهول
وأثارت الحملة التي نظمتها بلدية غزة واللجنة المركزية لمواجهة جائحة كورونا، على أصحاب البسطات في الجندي المجهول، جدلا واسعا واعتراضا كبيرا وسخطا عارما من البائعين، مطالبين بمنحهم الحرية الكبيرة في السعي نحو رزقهم.
فيما ردّت البلدية على لسان المهندس حسين عودة في حديثٍ خاص لموقع "زوايا" أن البلدية وظيفتها تنظيم المدينة ومتابعة الحِرف وملاحقة الحِرف غير المرخصة، ومساءلتهم قانونياً.
ونوّه إلى أن توفير فرص العمل، ومتابعة الحالات الإنسانية ليست من مهام البلدية، ولكن البلدية تقدر الظرف العام الصعب وتتعاطف مع أصحاب البسطات وتمنحهم حرية حسب ما تقتضيه المصلحة العامة.
ولفت أن البلدية حاولت غض الطرف على أصحاب البسطات والحرف، والحد من البسطات العشوائية التي تشوه المنظر الحضاري للمدينة، ولا سيما في منطقة الجندي المجهول وسط مدينة غزة، وأن هناك اعتداءات شاملة على الرصيف وتأجيرها بغير وجه حق لبعضهم البعض.
وأشار "عودة" إلى أن هناك اعتداءات كبيرة على المكان العام، وأن اللجنة المركزية لمواجهة كورونا، وهي تكتل من عدد من الوزارات منها (الداخلية والصحة والتعليم)، والتي أوصت بمحاربة البسطات التي تمثل تجمعًا للمواطنين وتبيع أطعمة غير موثوقة، وتشكل خطرًا على صحة المواطن، في ظل جائحة كورونا التي تعصف بغزة، وسط منظومة صحية متهالكة بفعل الحصار الإسرائيلي على غزة.
وأفاد بأن البلدية لاحقت البسطات العشوائية المنتشرة في منطقة الجندي المجهول، والتي تمثل سيادة كاملة على المكان، والبيات دون تركيب وفك البسطة والتي تستمر لما بعد حظر التجوال، وأن هناك شكاوى عديدة من المواطنين من هذه البسطات.
ووقع أصحاب البسطات تعهدًا، حسب ما ذكر "عودة" لـ"زوايا"، بعدم العودة للاعتداء على الأماكن العامة، والاستمرار إلى ما بعد حظر التجوال، والالتزام بالإجراءات الوقائية، وذلك بعد ثلاثة إخطارات وجهتها البلدية لأصحاب البسطات، وأن هناك 55 ألف دونم وهي مساحة المدينة، لوضع البسطة، وليس التركيز على منطقة الجندي المجهول الوجه الحضاري للمدينة.
وعن سؤالنا بخصوص ثمن إيجار أكشاك البحر بمبلغ 2100 دولار، في ظل كساد الموسم بفعل جائحة كورونا قال عودة: "نحن نقدر ذلك، وأن هناك لجنة تعويضات شكلتها البلدية، وستخرج بنتائج بعد أسبوع من الآن، ولن نظلم أحدًا، وسيتم حساب نسبة إعفاء من ثمن الإيجار".
وما زالت الحربُ مشتعلةً بين البلديات وأصحاب البسطات في قطاع غزة، ما بين الملاحقات والمساءلة القانونية، وما بين شكاوى المواطنين بما تشكله البسطات من إزعاج لهم وإغلاق للطرق العامة، حسب قولهم، وما بين وصايا اللجنة المركزية لمواجهة كورونا، وما بين لجنة الانضباط والمتابعة التابعة للبلديات، والتي من مهامها تنظيم عمل البسطات والحرف في قطاع غزة.
وما زالت الجوائح تلو الجوائحُ تضرب قطاع غزة، وارتفاعات متوالية في معدلات الفقر والبطالة، في ظل عجز حكومة غزة على إيجاد حلول فعلية تجاهها.
[video width="640" height="352" mp4="https://zawayanet.com/wp-content/uploads/2021/02/VID-20210211-WA0005.mp4"][/video]