"الدم الفلسطيني مادة تفاوض و حركة حماس"

اطلاق سراح الاسرى الاسرائيليين في غزة
اطلاق سراح الاسرى الاسرائيليين في غزة

في خضم الأزمات البنيوية التي تعصف بالعالم العربي يظهر الاستبداد ليس فقط كنظام حكم متجذر بل كعقيدة سياسية تُؤَسّس على إعادة إنتاج الأزمات وتدويرها لا على معالجتها. يتحوّل الحاكم المستبد إلى مهندس بارع في ابتكار سبل النجاة من مطالب التغيير لا بتلبيتها، بل باحتوائها وتحويلها إلى وقود إضافي لاستمرارية السلطة.

فالأنظمة العربية التي نصّبت نفسها ناطقًا رسميًا باسم الدولة بينما هي في الواقع ناطق باسم المصالح الخاصة لم تُفوّت فرصة لاستغلال مفهوم "التغيير" إلا وأفرغته من مضمونه وجعلت من وعود الإصلاح أدوات للتماهي مع الخارج والتعمية على الداخل، وإعادة تشكيل القمع بأقنعة أكثر نعومة ولكن أشد بطشًا.

وفي قلب هذه الرواية تبرز القضية الفلسطينية كأصدق اختبار أخلاقي وسياسي لأنظمة الحكم العربي. فالسلام الإبراهيمي ليس إلا محاولة فجة لتدوير أزمة لا لتسويتها هو إعادة تعريف للسلام وفق منطق القوة لا وفق منطق العدالة إنه سلام بلا كرامة وتطبيع على حساب شعب ما زال ينزف من أجل حقه في الوجود.

إن هذه الأنظمة التي تربط وجودها بثبات المعادلات الدولية لا بكرامة شعوبها، تتعامل مع فلسطين كملف إرباك دبلوماسي لا كقضية تحرر وطني. ولهذا تحولت المقاومة في نظرها من عنوان للحق إلى عبء يُراد التخلص منه أو تهميشه.

والمفارقة أن القضية الفلسطينية، وهي آخر الثورات التحررية المستمرة من القرن العشرين حتى اليوم تُختزل في "ملف تفاوضي" أو تُستبدل بـ "مشاريع ازدهار" تهجير تدوس على الدم الفلسطيني باسم التنمية.

حين يحاول الحاكم العربي تبرير عجزه بالتذرع بأن القرار ليس بيده وأن السيادة مرهونة بما يقرره "السيد الأمريكي" فهو يتناسى عن عمد أن الشعوب الحرة لم تنظر يومًا إلى الهيمنة كقدر لا يُرد. نسي الحاكم أن فيتنام حررت سايغون بإرادتها وأن الصومال كسر شوكة التدخل الأمريكي رغم هشاشته وأن كوبا الصغيرة صمدت أمام حصار واشنطن لعقود دون أن تنحني.

ومن المفارقات الصارخة أن يُصوَّر "السيد الأمريكي" على أنه صاحب القرار الوحيد بينما ننسى أن زيارة واحدة للرئيس دونالد ترمب إلى المنطقة حملت معها وعودًا باستثمارات قاربت أربعة تريليونات دولار كافية لو استُثمرت بحد أدنى من الكرامة والرؤية، لنهضت بالعالم العربي بأسره اقتصاديًا واجتماعيًا بل وأعادت تشكيله كقوة وازنة في ميزان العالم. لكن بدلًا من استثمار هذا الزخم اختارت الأنظمة أن تكتفي بالانحناء وبيع السيادة مقابل وعود زائفة. هنا لاتقول لي الزمن تغير والمعادلات الدولية وشرعية دولية كلام الفارغ ٫٫٫٫

وها هو ترمب ذاته الذي وعد بإنهاء الحرب في أوكرانيا خلال 24 ساعة وبشراء العالم من قناة بنما إلى غرينلاند وحرية الملاحة مجانا في قناة السويس وبتسويق رؤية لشرق أوسط خالٍ من الصراعات لم يقدّم إلا خطابًا فوضويًا يحوّل الشعوب إلى سلع تُباع وتُشترى على طاولات المقايضات دون أن تُستشار دون أن تعلم حتى أنها معروضة للبيع.

واليوم تُعاد صناعة مشروع جديد لتصفية القضية الفلسطينية عبر قصرها على قطاع غزة ومحاولة فرض عملية "عربات جدعون" التي تسعى لخلق واقع خانق إما الخضوع أو التهجير إما العزل أو الإبادة البطيئة. ورغم ذلك لا تزال حركة حماس تمارس عنادًا سياسيًا واستراتيجية تصعيد غير محسوبة وكأن الدم الفلسطيني لا يزال فائضًا يُستهلك في تجارب فاشلة.

إلى متى سيبقى الدم الفلسطيني مادة تفاوض يا حماس ؟ إلى متى يبقى أبناء غزة وقودًا لحروب عبثية بلا أفق؟ متى نملك الشجاعة لنقول إن التهور لا يُغني عن التحرر وإن القضية لا تُصان بالشعارات بل بالحكمة والمسؤولية؟

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo