يتفق معظم المحللين السياسيين على أن تاريخ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ يمثّل نقطة فارقة فى مسار الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى، لكنهم يختلفون حول تشخيص أبعاد التغيير الذى أحدثته عملية طوفان الأقصى، ويرجع ذلك إلى أن التحليلات السياسية تُكتَب بينما المعارك الحربية مازالت دائرة بل ومتصاعدة ونتائجها لم تُحسَم بعد، وهذا الوضع يجعل من الصعب تقديم تقييم موضوعى لحصاد عام من الحرب.
بطبيعة الحال هناك عدد من التغيّرات المؤكدّة التى حدَثَت ويمكن الإشارة إليها، ومنها على سبيل المثال أن هذه الحرب هى الأطول تاريخًا بين كل الحروب السابقة فى المنطقة باستثناء الغزو الإسرائيلى لجنوب لبنان الذى استمر لمدة ثلاث سنوات، وأن هذه الحرب كإحدى الحروب الهجينة التى تجمع بين الوسائل التقليدية والوسائل غير التقليدية تثبت أن توظيف التكنولوجيا الحديثة فى الأغراض العسكرية لم يعد له حدود، وأن عدد الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا خلال نحو اثنى عشر شهرًا من المعارك هو العدد الأكبر على الإطلاق مقارنةً بكل جولات الصراع العربى- الإسرائيلى السابقة.
هذه إذن بعض الحقائق المعروفة للجميع والمؤكّدة، لكن على صعيد آخر، فإن هناك بعض التغيّرات الأخرى الآخذة فى التشكّل لكنها لم تتبلوّر بعد أو لنقل إنها لم تكتمل بعد؛ بحيث يمكن الاطمئنان إلى تحليلها بشكل موضوعى. يدخل فى ذلك محاولات إعادة رسم خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط. صحيح أن إسرائيل تسعى لإعادة هندسة الحدود الجغرافية سواء داخل فلسطين التاريخية أم بينها وبين لبنان وأيضًا سوريا؛ عبر توظيف آليات الاستيطان والتهجير وإقامة المناطق العازلة وتوسيع الموجود منها بالفعل، وصحيح أن دونالد ترامب الرئيس الأمريكى السابق والمرشّح الحالى لانتخابات ٢٠٢٤ أعطى إسرائيل الضوء الأخضر للتوسّع قائلًا إن مساحتها لم تعد تكفيها؛ ما يعنى تفهّمه لحاجتها إلى التوسّع على حساب جيرانها، لكن المخطّط المذكور لم يتّم بعد، ومازال يواجه مقاومة شديدة. ومعلوم أن تغيير وجه الشرق الأوسط من عدمه، والمدى الذى يمكن أن يذهب إليه هذا التغيير؛ يتوقّف على اتجاهات سير المعارك الحربية وعلى إمكانية خلق حقائق جديدة على الأرض. وفى سياق التحوّط التحليلى السابق، يميّز هذا المقال بين ما تغيّر بالفعل وما لم يتغيّر بعد انقضاء أكثر من عام على طوفان الأقصى.
الخروج على قواعد اللعبة
بدايةً بالذى تغيّر، فإنه يشمل الانقلاب على القواعد التى حكَمَت الجولات السابقة للصراع العربى- الإسرائيلى وحققت لها نوعًا من الضبط، وهو ما يحلو للبعض وصفه بتجاوُز الخطوط الحمراء. لم تكتفِ حركة حماس بالردّ الصاروخى على قيام إسرائيل بحصار غزّة والتنكيل بالأسرى وانتهاك حرمة المسجد الأقصى؛ بل دخَلَت كتائب القسام إلى عمق الأراضى الإسرائيلية وهاجمَت المستوطنات واحتجزت ما لا يقل عن ٢٥٠ رهينة. كانت عملية حماس عمليةً نوعيةً بامتياز وغير مسبوقة فى جرأتها ودقة تخطيطها والنتائج المباشرة التى حققتها؛ ومع أنه كان من المتوقع أن يأتى ردّ الفعل الإسرائيلى بالغ العنف ومختلفًا عن كل ما سبقه بحكم شدّة الهجوم، إلا أنه تجاوز فى ضراوته كل السيناريوهات المتصوّرة، ولعل هذا هو ما دفع البعض إلى المبالغة بالقول إن إسرائيل استدرجَت حماس لهجوم السابع من أكتوبر؛ ليكون من السهل عليها تصفية القضية الفلسطينية.
استمر نمط التصعيد والتصعيد المضاد ممّيزًا للمعارك على مدار اثنى عشر شهرًا، وساعد على ذلك عاملان أساسيان، الأول هو وضع إسرائيل أهدافًا مستحيلة لوقف الحرب، أهمها القضاء على حماس قضاءً مبرمًا، ومعلوم أن تصفية قيادات حماس وكوادرها لا تعنى تصفية فكر حماس ولا بالطبع تصفية القضية الفلسطينية؛ ومن ثم راحت إسرائيل تنتقل من تصعيد إلى تصعيد وكأنها تطارد سرابًا لكنها لا تتوقّف. والثانى هو دخول حلفاء إيران تباعًا فى الحرب إسنادًا للمقاومة الفلسطينية تحت شعار وحدة الساحات، وهذا شكّل بحد ذاته نوعًا من التصعيد من خلال توسيع نطاق الصراع؛ الأمر الذى ينقلنا إلى عنصر آخر من عناصر التغيير.
كانت عملية طوفان الأقصى وما تلاها اختبارًا لمصطلح وحدة الساحات أكثر من أى مرةٍ سابقة؛ الأمر الذى أدّى لمزيد من ترابط قضايا المنطقة وتعقيدها أكثر فأكثر. فلقد أدّى دخول حزب الله اللبنانى على الخط فى اليوم التالى مباشرةً لعملية الطوفان إلى ربط جبهتى غزّة وجنوب لبنان، ومع تطوّر تداعيات هذا الربط إلى مواجهة مفتوحة بين حزب الله وإسرائيل، أضاف بعض المسؤولين الإسرائيليين لشروط التهدئة فى لبنان إطلاق الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس؛ أى جرى التعامل مع مجريات الأوضاع على الجبهتين كحزمة واحدة.
من جهة أخرى، فإن اشتباك الحوثيين مع إسرائيل إسنادًا لجبهة غزّة ووصول صواريخهم إلى تلّ أبيب، استدعى قيام إسرائيل بمهاجمة عدّة أهداف فى داخل العمق اليمنى مرةً تلو الأخرى، وهكذا تم الربط بين جبهتين يفصل بينهما أكثر من ألفى كيلومتر.
أما الجبهة السورية، التى شكلت طوال الوقت ساحة للهجمات الإسرائيلية من قبل عملية طوفان الأقصى بكثير، فإن دخولها ضمن جبهات إسناد غزّة أحدث تطورًا غير مسبوق فى الهجمات الإسرائيلية، وذلك من خلال استهداف القنصلية الإيرانية فى دمشق لأول مرّة. بقول آخر، إذا كان النفوذ الإيرانى فى سوريا قد جرى استهدافه باستمرار من جانب إسرائيل؛ فإن ربط الساحة السورية بالساحة الفلسطينية قد أضاف مبررًا جديدًا لتصعيد إسرائيل هذا الاستهداف.
أدّى الهجوم الإسرائيلى على القنصلية الإيرانية فى دمشق إلى استدراج إيران للمواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل، وذلك عبر تنفيذ إيران فى إبريل ٢٠٢٤ هجومًا صاروخيًا منضبطًا ومحدود التأثير ضد أهداف عسكرية إسرائيلية. وكان من الملاحظ أن إيران حرصت منذ بداية طوفان الأقصى على نفى أى صلة لها بالهجوم أو حتى علمها بتوقيته؛ ما يعنى حرصها على النأى بنفسها عن التورّط المباشر، لكن هذا الموقف تغيّر بعد قصف القنصلية فى دمشق ومقتل بعض كبار قادة الحرس الثورى الإيرانى فى الغارة الإسرائيلية. وعادت إسرائيل لتصّعد مع إيران مجددًا باستهدافها إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، وهو فى ضيافة طهران للاحتفال بتنصيب الرئيس الجديد للجمهورية الإسلامية، فكان أن ردّت إيران بعد تمهّل، ردًّا أقوى فى مطلع أكتوبر ٢٠٢٤، وأعقب ذلك ردّ إسرائيلى على الردّ الإيرانى فى السادس والعشرين من الشهر نفسه. ويُعد انتقال إيران من محاربة إسرائيل بالإنابة عن طريق حلفائها إلى محاربتها بالأصالة عن نفسها؛ أحد أهم مظاهر التغيير التى شهدتها المنطقة بعد السابع من أكتوبر.
على صعيد آخر، لم تتجاوب دول الخليج- باستثناء مملكة البحرين- مع دعوة الولايات المتحدة فى ديسمبر ٢٠٢٣ لتشكيل قوة حارس الازدهار البحرية بغرض تأمين حرية الملاحة فى البحر الأحمر ضد هجمات الحوثيين. وهذا أيضًا يُعد موقفًا جديدًا إذا ما قمنا بمقارنته بالموقف الخليجى فى القمّة الأمريكية الإسلامية الخليجية بالرياض فى مايو ٢٠١٧، وقوامه الموافقة على تشكيل «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجى» الذى كان من أهدافه محاربة الإرهاب، فى إشارة غير مباشرة للتهديدات الإيرانية ضمن أنواع أخرى من التهديدات. ويرجع هذا الاختلاف إلى أنه بين عامى ٢٠١٧ و٢٠٢٣ تغيّرت أمور كثيرة، منها عودة العلاقات الخليجية الإيرانية، وتبنّى الدول الخليجية سياسة قوامها تحقيق نوع من التوازن فى علاقاتها بكلٍ من إيران والولايات المتّحدة. ومع أن بنيامين نتنياهو تحدّث فى الجمعية العامة للأمم المتّحدة عشية اغتيال إسماعيل هنيّة، عن محورين فى الشرق الأوسط، أحدهما سماه محور النقمة وأدخل فيه إيران وحلفاءها، والآخر أطلق عليه محور النعمة وأدخل فيه دول الخليج مع مصر ودول أخرى؛ فإن هذا التصوّر الإسرائيلى لم ينعكس عمليًا فى شكل اصطفاف خليجى ضد إيران.
بقايا النظام الدولى «الأحادى»:
انتهاءً بما لم يتغيّر، فإنه يتضمّن الالتزام الأمريكى المطلق والثابت بدعم إسرائيل، لا فارق فى ذلك بين إدارة جمهورية وأخرى ديمقراطية؛ بل لقد انفردَت الإدارة الديمقراطية الحالية بتصريحات غير مسبوقة كقول الرئيس جو بايدن إنه لو لم تكن هناك إسرائيل لحرصت الولايات المتّحدة على إقامتها، وتأكيده أكثر من مرّة أنه صهيونى وإن كان غير يهودى. ثم أكمل وزير خارجيته أنتونى بلينكن الحلقة عندما زار إسرائيل بعد أيام قليلة من وقوع عملية طوفان الأقصى، قائلًا إنه أتى إسرائيل بصفته يهوديًا. وفى مثل هذا السياق، الذى تختلط فيه الأيديولوجيا بالمصالح، والدين بالسياسة الخارجية استخدمت إدارة الرئيس بايدن كافة الأدوات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والإعلامية لتأكيد حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها فى مواجهة التهديدات الإرهابية التى تتعرّض لها، وزادت بأن انخرَطت انخراطًا عسكريًا مباشرًا فى الصراع.
ففى أعقاب إقدام ما يُسمّى المقاومة الإسلامية فى العراق على استهداف قاعدة البرج ٢٢ على حدود الأردن مع سوريا فى يناير الماضى، قامت الولايات المتحدة بالإغارة على مواقع بعض فصائل هذه المقاومة داخل العراق. وعلى صعيد آخر أدت الولايات المتّحدة دور ضابط الإيقاع للصراعات التى انبثقت عن عملية طوفان الأقصى فضلًا عن مسار الحرب فى غزّة نفسها. ففى حين أطلقَت إدارة بايدن يد إسرائيل فى التعامل مع كلٍ من ملّفى غزّة ولبنان؛ فإنها أدت دورًا أساسيًا فى ترشيد الردود العسكرية الإيرانية ضد إسرائيل، وبالعكس. لكن لغة الإدارة الأمريكية كانت أكثر من واضحة فى تأكيد الالتزام التام بالدفاع عن إسرائيل لو اندلعَت حرب بينها وبين إيران.
كذلك تأكّدَت المواقف غير الفاعلة لكلٍ من روسيا والصين فى التأثير فى مجريات الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى وامتداداته لعدّة ساحات عربية، ناهيك عن الساحة الإيرانية؛ إذ مثّل الدعم السياسى والدبلوماسى للفلسطينيين والدعوة للالتزام بالقرارات الدولية جوهر الموقفين الروسى والصينى؛ ما يجعل هناك فجوة كبيرة بين هذين الموقفين والموقف الأمريكى. ويمكن تفسير ذلك فى ضوء الحسابات المعقّدة التى كان على موسكو أن تقوم ببناء موقفها على أساسها، إذ استغّلت موسكو تفجّر الوضع فى غزّة للتدليل على فشل سياسة الولايات المتحدّة فى المنطقة، واستفادت من انصراف التركيز الدولى إلى الشرق الأوسط بدلًا من شرق أوروبا وانتقال تدفقات السلاح الغربى من أوكرانيا إلى غزّة، وهذان اعتباران متناقضان. فالاعتبار الأول يفضى بشكل غير مباشر إلى التأثير فى العلاقات الروسية- الإسرائيلية بحكم استفادة إسرائيل من الانحياز الأمريكى الفاضح لصالحها. بينما يفضى الاعتبار الثانى إلى التأثير فى علاقة روسيا بحركة حماس والأهم على علاقة روسيا بإيران، ومعلوم أن روسيا تربطها شبكة من المصالح المعقّدة بكلٍ من إسرائيل وإيران داخل سوريا وخارجها، كما أدت إيران دورًا مهمًا فى إمداد روسيا بالمسيّرات لاستخدامها فى حرب أوكرانيا.
إذا انتقلنا إلى الصين فإنها رغم موقفها الثابت من القضية الفلسطينية فإنها لا تمتلك رصيدًا من الانخراط التاريخى فى المنطقة على المستوى السياسى وهذا يقيد حركتها، فضلًا عن ذلك ترتبط الصين بعلاقات جيّدة بكلٍ من إسرائيل وإيران، وهذا يشكّل قيدًا آخر. والخلاصة أن حرب غزّة أتت لتثبت أن مرحلة التعددية على قمّة النظام الدولى لم تتحقّق بعد، رغم كل محاولات تقليص النفوذ الأمريكى.
نأتى إلى النقطة الأخيرة التى تتعلّق بالانقسامات الفلسطينية، وهى الانقسامات التى ظلّت على حالها ولم يطلها تغيير، وذلك على الرغم من جسامة التطوّرات التى جرت فى كلٍّ من غزّة والضفة الغربية. فلقد بادر الرئيس محمود عبّاس بعد أيام قليلة من طوفان الأقصى بالقول إن سياسات وأفعال حماس لا تعبّر عن الشعب الفلسطينى. ومع أنه قام بتعديل كلامه بعد ذلك إلا أنه عاد فى القمة العربية المنعقّدة فى البحرين فى مايو ٢٠٢٤ لاتهام حماس بأن عمليتها أعطت إسرائيل المزيد من الذرائع للإمعان فى القتل والتدمير والتهجير. ومثل هذا الموقف كان من الطبيعى أن يصب الزيت على نار الخلافات المشتعلة أصلًا بين فتح وحماس. ولم ينجح إعلان بكين الذى انبثق عن اجتماع أربعة عشر فصيلًا فلسطينيًا أبرزها فتح وحماس فى تحقيق المصالحة على أرض الواقع، وظلّ التباين بين موقفَى الطرفين من تفاصيل اليوم التالى فى غزّة بعد انتهاء الحرب عقبةً كؤودًا أمام إنجاز أى تقدّم.
الخلاصة العامة هى أن عامًا كاملًا على طوفان الأقصى غيّر أوضاعًا وتفاعلات كانت قد استقرّت لسنوات كثيرة، وأثبتت مجموعة أخرى من الأوضاع والتفاعلات قدرتها على مقاومة كل رياح التغيير. ويبقى القول إن المشهد الكامل لن تتضّح أبعاده قبل أن يهدأ صوت المدافع وأزيز الطائرات وتفرض نتائج الحرب نفسها على السياسة والسياسيين.