صناعات من عبق التاريخ مهددة بالاندثار من غزة

صناعات قديمة
صناعات قديمة

الكثير من المهن القديمة لا يذكرها الفلسطينيون بسبب تغير إيقاع العصر والتحول إلى الحداثة والتكنولوجيا، ولكن رغم هذا الغياب لتلك المهن عن واقع الحياة اليومية، فهي تحتل موقعاً فنياً في الذاكرة الفلسطينية.

فهناك مهن تراثية اندثرت بشكل تام في قطاع غزة منها "الأواني الزجاجية الملونة"، ومهن أخرى على وشك الاندثار مثل" الأثاث المصنوع من الخيزران، وحرفة السجاد اليدوي، وصناعة الأواني الفخارية".

في حين أن هناك مهناً بالكاد يعمل بها من عاصروها من كبار السن مثل مهنة "الخواصة" المصنوع من عسف النخيل، وكذلك مهنة "تنجيد المفروشات"، أما مهنة "التطريز اليدوي" فقد أعادت النساء إحياءها من جديد وأنقذنها من الفناء. في حين تبذل جهود متفرقة لحماية صناعة "الحصير البلاستيكي".

استعراض واستقراء

عوامل عِدة هددت المهن التراثية بالاندثار، أهم هذه العوامل الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة وإغلاق المعابر وانقطاع التسويق للضفة الغربية والخارج لسنوات، فضلاً عن منع الاحتلال الإسرائيلي إدخال الكثير من المواد الخام اللازمة لهذه الصناعات.

"زوايا" استعرض مع بعض أصحاب المهن المهددة بالانقراض، جزءاً من واقع الظروف التي واكبت مراحل عملهم، والمشكلات التي واجهتهم، حتى وصلت صناعاتهم النادرة إلى هذا الحال السيء، وكذلك دور الجهات الرسمية والنقابية ذات العلاقة في متابعة وإنقاذ هذه المهن من الاختفاء، واستقراء الحلول المقترحة لإعادة إحيائها في قطاع غزة.

اقرأ أيضاً: صناعة القوارب بغزة.. مهنة تنقرض بدون إنقاذ

أكرم محمود اليازجي من حي الشجاعية بغزة، يعمل في حرفة "النول" القائم على صناعة السجاد اليدوي ومشغولات يدوية تراثية أخرى، يقول إنه يعمل في هذه الحرفة منذ أكثر من 50 عاماً، وأن الكثير من قرنائه في المهنة غادروها، بسبب الحصار ومنع الاحتلال تسويق منتجهم إلى الضفة الغربية والخارج.

0001.jpg

لكن اليازجي أشار إلى عودة السماح لهم بالتسويق إلى الضفة حديثاً، الأمر الذي أشعر أصحاب الحرفة ببصيص أمل لمواصلة عملهم في هذا المجال، لافتاً إلى أن هذه العودة شجعت حاليا أحد التجار لتوفير مشاغل خاصة لبعض "الصنايعية" وعائلاتهم، ثم هو يأخذ منتوجاتهم ويتولى تسويقها في الضفة، في حين هناك بعض الحرفيين لا يزالون يُنتجون حسب طلب الزبائن.

وقبل سنوات كانت شوارع وحارات غزة القديمة تتزين بمحال الحرفيين الذين يعملون في صناعة الأثاث المنزلي المصنوع من عيدان الخيزران، ويتسابق أصحاب الحرفة على إنتاج تصاميم جديدة، لها أنواع وأشكال كثيرة يتم تشكيلها عن طريق بخار الماء أو النار.

ولعقود عملت "عائلة خلف" في هذه الحرفة وتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، فيقول الخمسيني طارق خلف "إنهم يصنعون في الوقت الحالي أثاث الخيزران ويبيعونه بتكاليفه، للمحافظة على إرث العائلة في هذه الصناعة الهامة"، مبيناً أنهم متضررون كما غيرهم بفعل الحصار والمنع من التسويق للضفة والخارج من سنوات.

003.jpg

ولفت خلف إلى أنه في فترة من الفترات كان 60-65 مصنعا يعمل في حرفة الخيزران، ولكن أغلب هذه المصانع أضحت من الماضي بعدما أغلقت أبوابها بشكل تام، غير أن -عائلة خلف- تسعى إلى تعليم أبناء العائلة على صناعة الأثاث ومنتجات مختلفة من الخيزران، للمحافظة على تاريخ المهنة وديمومتها، حيث أن هذه المهنة نادرة وهناك خشية كبيرة من اندثارها.

أما مهنة "الخواصة" التي تقوم على صناعة مشغولات يدوية من سعف النخيل، فهي حرفة يتمسك البعض بها كنوع من الحفاظ على التراث القديم، وتعمل بها الستينية "أم محمد اللحام" من خانيونس مع بعض أفراد أسرتها، وتقول لـ"زوايا": "إنها مهنة تُدلل على الحفاظ على تراث الآباء والأجداد الذي نفتخر به".

0005.jpg

وتضيف اللحام: "من الناس من يحبون استخدام مشغولات الخواصة في بيوتهم مثل فرش الطعام وطبق الخبز أو سلة للبيض، وهناك من يحبون اقتناءها وتعليقها كشكل من التراث والزينة في مجالسهم"، لافتة إلى أن بيع -الخواصة- للضفة كان متاحاً، ولكن الآن انتهى الأمل بالتسويق بعد أن غادر المهنة أغلب أصحابها.

مهنة اختفت نهائياً

ومن الحرف التي اندثرت فعلياً بشكل كامل في قطاع غزة هي مهنة صناعة "الأواني الزجاجية الملونة"، والتي كان يعمل بها متجر واحد فقط في غزة، حيث لم يتبق من أثره إلا معدات التلوين والتشكيل. هذا ما يؤكده خضر شنيورة المدير التنفيذي للاتحاد العام للصناعات الفلسطينية، معتبرا أنها "كانت من أجمل وأثمن الأشياء التي كان يُقبل السياح والمواطنون على اقتنائها وإهدائها في مناسباتهم وسفرياتهم".

0004.jpg

وتطرق شنيورة في حديثه لـ"زوايا" إلى أن حرفة السجاد اليدوي كان يعمل بها حتى وقت قريب نحو 4 مصانع رئيسية، ولم يتبق الآن سوى مصنعين في أحسن الأحوال، في حين أن صناعة الخيزران كان يعمل به ما يزيد عن 15 مصنعاً، ولكن لم يبق منها أكثر من 4 على أغلب تقدير.

0006.jpg

أما حرفة "التطريز اليدوي"، فقد ذكر شنيورة أنها لا زالت قائمة وتتطور، بسبب دعم بعض الجمعيات والمؤسسات للمشاريع النسوية في هذا المجال وكذلك اهتمام الكثير من النساء بتطريز مقتنيات بيوتهن وتجميلها، فضلاً عن رواج تسويق المطرزات، كنوع من التراث والهدايا التي يقبل عليها الوافدون والسياح من الخارج.

ومن العوامل التي قد تؤدي إلى تلاشي صناعة "الأواني الفخارية" في قطاع غزة تدريجياً، هي الملاحقة المستمرة لأصحاب" الفواخير" من قبل الجهات المختصة وخاصة البلديات، بسبب ما يقال إنها المحاذير الصحية والبيئية الناتجة عن محارقها المسماة "التنور"، وانزعاج المواطنين من انبعاثات الدخان منها.

اقرأ أيضاً: فخار غزة.. زادت طلباته وما قلت مشاكله!

إلى أن هناك رديف آخر للحرف المهددة بالانقراض وهي "صناعة قوارب الصيادين"، فإلى جانب معاناة الصيادين المستمرة في مهنة الصيد البحري وملاحقتهم من قبل قوات الاحتلال، ما زال الاحتلال يمنع الكثير من المواد والمعدات اللازمة لصناعة أو إصلاح مراكبهم المهترئة منذ سنوات.

 تسهيلات وحملات

ووفق تقدير شنيورة، فإن عدد العاملين في المهن القديمة المهددة بالاندثار لا يتعد 200 عامل في قطاع غزة، مشيراً إلى أن انقطاع التسويق والتصدير لمنتجات هذه الحرف والصناعات لفترة طويلة قبل عودة التسويق للضفة حديثاً، أدى إلى عزوف الكثيرين عن العمل بهذه المهن وتسريح حرفييها، وإغلاق بعضهم لمصانعهم بشكل كامل.

وحول المستقبل والحلول لإعادة هذه الصناعات إلى سابق عهدها، فقد شدد شنيورة على ضرورة أن يكون هناك برنامج ممنهج، لإحياء هذه المهن الحرفية باعتبارها إرثا تاريخيا وتراثا فلسطيني وحمايتها من الاندثار.

وأشار إلى أهمية مبادرة الجهات ذات العلاقة وهي: الاتحاد العام للصناعات، اتحاد الصناعات التقليدية والسياحية، وزارة الاقتصاد الوطني، وبلدية غزة، من أجل تفعيل هذا القطاع ولم شملها، من خلال تعزيز الشركات والمصانع القائمة وإعادة فتح المغلق منها، ومحاولة دعمها ببرامج ومشاريع معينة، لتقف على أقدامها من جديد.

كما دعا الجهات الحكومية المختصة، إلى إعفاء أصحاب هذه المهن من الضرائب والتراخيص وتسهيل عمليات تسويقهم وتصدريهم للخارج.

وشدد شنيورة على وجوب تنظيم حملة ترويج لمنتجات الحرف الفلسطينية الأصيلة والمهددة بالاندثار، سواء على المستوى المحلي والضفة الغربية وربطهم مع معارض خارجية مثل معرض "اكسبو" في العاصمة الإمارتية دبي، منوهاً إلى نجاحهم خلال -معرض إكسبو الأخير- في الترويج لصناعات الضفة الغربية، حيث بيعت في هذا المعرض منتجات فلسطينية بما يزيد عن 400 ألف دولار.

حماية المنتج الوطني

"زوايا" أحال الحديث عن مصير الصناعات التراثية المهددة بالانقراض إلى الجهة الحكومية المختصة في غزة وهي وزارة الاقتصاد الوطني بغزة، حيث قال أسامة نوفل مدير السياسيات والتخطيط بالوزارة "إن الصناعات التقليدية تكتسب أهميتها من إرثها الحضاري الفلسطيني، وتتمتع بالجودة والقدرة التنافسية مع الصناعات الأخرى، فضلاً عن توفر مدخلات الإنتاج لبعض هذه الصناعات في القطاع مثل صلصال الفخار وبلاستيك الحصير، عاداً أن هذه المميزات تعطيها أولوية للاهتمام بإعادة إحيائها.

وأشار نوفل إلى الأسباب التي أدت إلى أن تكون بعض هذه الصناعات التراثية مهددة بالانقراض، منها "تراجع السياحة الوافدة إلى قطاع غزة نتيجة الحصار المفروض منذ 17 عاماً".

وأوضح أن بعض السلع المثيلة للصناعات التقليدية، أثرت بشكل كبير على إنتاج هذه الصناعات، منوهاً إلى أن رواج الأواني الفخارية- على سبيل المثال- قل بشكل كبير، بسبب وجود الأواني مختلفة الأنواع والأشكال المصنوعة من السيراميك والمعادن والبلاستيك والأخشاب.

وكذلك "الحصير البلاستيكي" الذي استعاض عنه المواطنون بالسجاد والموكيت المستورد، فقد ذكر نوفل أن وزارته قللت من الأثر السلبي لدخول كميات كبيرة من الحصير من مصر، عبر حماية المنتج المحلي من هذه السلعة، وبالتالي حقق ذلك عودة لانتعاش لهذا الصناعة الهامة من جديد، مؤكداً أنهم سيتخذون خطوات مماثلة، لحماية معظم المنتجات الوطنية من الصناعات التقليدية والتراثية القديمة، على حد تعبيره.

وأشار نوفل إلى أن وجوب الاهتمام بكافة الصناعات التقليدية على كافة المستويات، وتظافر الجهود لحمايتها، لافتاً إلى أهمية منع أو تقنين إدخال السلع المثيلة لها الواردة من خارج القطاع، فضلاً عن إقامة معارض دائمة وموسمية متخصصة للترويج لهذه الصناعات التراثية الأصيلة.

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo