الفلسطينيون والانتخابات التركية

الانتخابات التركية
الانتخابات التركية

(1) انتخابات عابرة للقارات

صحيح ان الانتخابات جرت في حدود تركيا الجغرافية, وصوت فيها الاتراك وعبروا فيها عن ارادتهم السياسية , لكن نتائج هذه الانتخابات طارت بعيدا وتخطت الحدود والحواجز لتصل الى بقاع بعيدة وشعوب محرومة وأمم تتطلع الى واقع افضل من واقعها.

ما يدلل على ما قلته انفا, هو هذا التفاعل والاهتمام الكبير والمتابعة والترقب لمجريات واحداث ونتائج الانتخابات قبل حدوثها بشهور من قبل شعوب وجماعات واحزاب غير تركية , على نطاق العالم العربي والغربي, سواء مؤيدين او معارضين لهذا الحزب او ذاك.

الرائحة القوية التي فاحت من الانتخابات التركية هي رائحة ونكهة الديمقراطية الرائعة والراسخة والتي عكست قوة الدولة وعظمة شعبها وتمسكه بقيم الحرية والديمقراطية وحرية الاختيار , فضلا عن الاقبال الكبير غير المسبوق عليها.

كل من تابع الانتخابات التركية, بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية او العرقية او الثقافية, لم يجد له ثغرة كي يمارس فيها سياسة الطعن او الاتهام بالتلاعب , بل وجد انه لا مناص للوقوف احتراما واجلالا لهذه التجربة الديمقراطية الرائدة , على مستوى العالم الغربي او على مستوى دول الشرق الاوسط.

قد يكون الاكثر اهتماما هي تلك شعوب الشرق الاوسط التي تعاني من ظلمات الاستبداد وغياب الحريات ونظام الحزب الواحد ونسبة ال 99% التي تتكرر في صناديق الرؤساء والزعماء وتسلط الكثير من الظلمة على مقاليد هذه الشعوب.

اقرأ/ي أيضاً: طلبة الثانوية بفلسطين.. تأثير كارثي للاحتلال وضغوط تحتاج رعاية

ولان تركيا دولة تعد من الدول ذات الحضور السياسي النافذ والقوة الاقتصادية الدولية المزاحمة, والمشاركة في رسم كثير من العلاقات المتشابكة اقليميا ودوليا, فإنها تجد نفسها في موقع متقدم من صناعة الخارطة السياسية وتوجهاتها في مناطق كثيرة, وتلقي بقوة تأثيرها على الكثير من الصراعات والنزاعات .

فتركيا هي من الدول المؤسسة لحلف الناتو , وهي دولة محورية ترتبط بالكثير من الملفات الصعبة والمعقدة كالصراع السوري وعلاقاتها المتأرجحة بالولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والتي رغبت كثيرا في اسقاط اردوغان وحزبه من سدة الحكم , فضلا عن علاقتها القوية بروسيا وايران, ونجاحها في اعادة ترتيب علاقتها مع عدد من الدول العربية مثل مصر والسعودية والامارات.

لذلك يمكن القول ان الانتخابات التركية تجد تداعياتها وتأثيرها القوي على التوازنات في المنطقة, وعلى مسار العلاقات الاقليمية والدولية , خاصة في مناطق النزاع . لذلك فان العديد من وسائل الاعلام الغربي عملت بقوة على التدخل المباشر في توجهات الناخب التركي ومحاولة التلاعب بعقول الغربيين ان اردوغان وحزبه يشكلون خطرا على الاستقرار العالمي.

تقول شبكة "سكاي نيوز" البريطانية في تحليل لها إن كل العيون تتجه إلى ما ستبدو عليه الانتخابات الأكثر أهمية هذا العام في العالم, أما صحيفة الغارديان البريطانية، فقد عكست معاداتها للإسلام بالقول أن فوز رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية هو "انتصار للاستقطاب".

من الواضح ان الانحياز الغربي ضد اردوغان وحزبه يمثل سياسة ثابتة تعكس التخوف من نشوء أنظمة ديمقراطية تتعارض مع كثير من التوجهات والقيم الغربية, رغم قناعته بنزاهة وحرية الانتخابات, لكنه يتجاوز كل هذه القيم , كما يتجاوزها مع كثير من الانظمة العربية, ليغلب مصالحه عليها.

(2) تركيا التاريخ والجيرة

تركيا كانت جزءا من تاريخ المنطقة العربية والاسلامية لمئات السنين, وتركت فيها الكثير من الشواهد والرموز والاثار وكذلك الثقافة, لذا فان ارتباطها بمنطقة الشرق الاوسط وثيق لا يمكن الانفصال او الانفكاك عنه. لقد كانت تركيا كانت جزء من تاريخ المنطقة الطويل، لأكثر من 400 عام، من خلال الامبراطورية العثمانية، فضلاً عن أنها باتت في السنوات الأخيرة ملتصقة مع الكثير من الملفات الساخنة في المنطقة، خاصة في سوريا والعراق وسرعة تجاوبها مع ما حدث من تطورات في قطر وليبيا والصومال وغيرها .

كما ان تجربة تركيا طوال عشرين سنة الماضية , سواء سياسيا او اقتصاديا , جعلت هذه الشعوب الاكثر اهتماما بما تتمخض عنه الانتخابات التركية نظرا لكثير من الروابط الدينية والتاريخية التي تربطها بتركيا. من هنا فان الشعوب العربية والاسلامية ابدت متابعة قوية لمجريات الانتخابات التركية , وما ان ظهرت النتائج حتى تفاعلت معها سريعا في كثير من العواصم العربية والاسلامية, ففي لبنان أقام مواطنون مسيرات واحتشدوا وأقاموا احتفالات في ساحات مدينة طرابلس, وفي قطر نظمت مسيرة في شوارع العاصمة الدوحة، احتفالا بفوز الرئيس التركي، كما أضيئت بعض مباني الدوحة بالعلم التركي وصورة أردوغان, وفي فلسطين بدت مظاهر الفرح من خلال توزيع الحلويات في الاسواق والاماكن العامة.

يمكن الاشارة الى تأثر الرأي العام العربي بشخصية اردوغان ودوره السياسي من خلال استطلاع للرأي أجري في عدد من البلدان العربية عام 2019 حول الشخصيات الدينية التي تتمتع بالثقة، احتل أردوغان موقعا متقدما في جميع البلدان العربية، متفوقا على عدد من الرموز الدينية.

ربما ما عزز شعور الارتباط اكثر بتركيا ودورها السياسي , هو دعم تركيا بشكل واضح لثورات لربيع العربي الذي كان يهدف الى احداث تغيير جذري في الواقع السياسي العربي والخروج من ظلمة الديكتاتورية والاستبداد الى فضاء الحرية والديمقراطية.

وقد دفعت تركيا ثمنا لذلك, اذ توترت علاقتها بكثير من الانظمة العربية, ووصلت الى حد القطيعة وطرد السفراء, لكن تركيا سرعان ما اعادت حساباتها السياسية وعملت على ترميم هذه العلاقة بعد ان انتكست غالبية تجارب الربيع العربي .

ربما رأى الكثير من النخب السياسية والحزبية في العالم العربي في هذه الانتخابات حلما , او قل محاولة لاستعادة حضورهم السياسي, بعد أن منوا بهزائم مفجعة في عصر الربيع العربي في عدد من البلدان.

(3) تركيا والقضية الفلسطينية

ان الفلسطينيين الذين يعانون من الاحتلال الاسرائيلي على مدى 75 عاما وذاقوا فيه كل انواع الظلم والاضطهاد والتهجير يتطلعون دوما الى أي دولة او نموذج يمكن ان يمنحهم شيئا من الامل في الوقوف الى جانبهم واسترداد حقوقهم . وظهر ذلك جليا وقت اندلاع ثورات الربيع العربي التي قامت تحت شعار منح الشعوب العربية الحرية ومحاربة الظلم والاستبداد, والتي كان يتعطش فيها الفلسطينيون الى انظمة عربية ذات صدقية عالية في التعامل مع قضيتهم.

اقرأ/ي أيضاً: ترجمة خاصة الذكاء الاصطناعي يزيد التفجيرات على غزة

كثير من المعارضين للانظمة العربية وجدوا في تركيا متنفسا وملاذا لممارسة حقوقهم والدفاع عن قضاياهم, والكثير من الفلسطينيين وجدوا فيها أرضا خصبة لاسترجاع حضور القضية الفلسطينية وذلك من خلال احتضان الشعب التركي وبعض احزابه لانشطتهم, كما ان الدولة التركية منحت الكثير منهم الاقامة والحرية في اقامة النشاطات السياسية.

بالطبع هذا اغضب دولة الاحتلال والتي شرعت وسائل اعلامها في الترويج بأن تركيا تمثل حاضنة "للارهاب الفلسطيني", وحرضت الكثير من الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة على اتخاذ مواقف معادية لتركيا.

بلا شك هناك تعاطف سياسي وحزبي وشعبي تركي مع القضية الفلسطينية, لكن أيضاً في المقابل، ثمة تقييدات تتعلق بعضوية أنقرة في حلف (الناتو)، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد, كما ان تركيا استعادت علاقتها الطبيعية بدولة الاحتلال بعد مرورها في مراحل شائكة.

لذا فان علاقة تركيا بالقضية الفلسطينية شائكة ومعقدة وتستند –بعد البعد الديني والقومي- الى التوازنات والمصالح السياسية.

الرئيس التركي أردوغان اكد أكثر من مرة أن “القدس، ولا سيّما القدس الشرقية” عاصمة فلسطين بالنسبة للعالم الإسلامي, وانتقد فيه القرار الأمريكي بنقل السفارة للقدس، وانتقد العالم الإسلامي على ردة فعله غير الكافية بخصوص القرار الأمريكي والسياسات الإسرائيلية، كما انه هاجم اسرائيل في مرات عديدة متهما اياها بارتكاب جرائم ضد الشعب الفلسطيني .

غير أن هناك من يرى ان تركيا يمكن ان تفعل اكثر لصالح الشعب الفلسطيني والوقوف الى جانبه ودعمه نضاله السياسي والوطني بعد ان تخلت الكثير من الدول العربية عن هذا الدور منذ زمن بعيد. لكن لا تزال التخوفات قائمة بسبب حرص تركيا على تعزيز دورها السياسي ومعالجة مشاكلها الاقتصادية, مما يجبرها على اعادة تدوير علاقاتها والخروج من دوامة الخلافات مع دول المنطقة خاصة مع دولة الاحتلال.

الفلسطينيون يتوقعون من تركيا الكثير. وربما ان فوز اردوغان لخمس سنوات قادمة ربما يمنحه فرصة اكبر لتوسيع مساحة دعمه لأطول قضية عرفها التاريخ , وهذا سيتوقف بشكل كبير على السياسات التي ستنتهجها الدولة التركية في الايام القادمة.

على كل حال ,ستبقى تركيا محطة أمل للفلسطينيين.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo