دولة (حل الدولتين) ليست فلسطين

المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي
المواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي

كثير من المراقبين السياسيين وحتى المواطنين الفلسطينيين يتساءلون عن سبب تردد القيادة الفلسطينية في الإعلان رسميا وفعليا قيام الدولة الفلسطينية وتجاوز مرحلة الحكم الذاتي المرتبطة باتفاقية أوسلو والتي كان يُفترض أن تنتهي في مايو 1999 وخصوصا أن الجميع يعترفون بفشلها كما أن غالبية دول العالم اعترفت بالدولة الفلسطينية في عام 2021، وهل هذا التردد بسبب قناعة وايمان من القيادة الفلسطينية أنه ما زال هناك إمكانية لقيام الدولة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس؟ أم خشية من ردة فعل معارِضة إسرائيلية وأمريكية وحتى عربية تؤدي لإنهاء وجود السلطة الوطنية؟   وهل الدولة الناتجة عن أي تسوية سياسية ستكون بديلا عن فلسطين التاريخية والانتدابية؟

كثيرة هي التساؤلات المعلقة دون إجابة والتي تزيد من حالة الارباك في الساحة الفلسطينية وخصوصا عندما يتداخل الحديث عن الدولة في الضفة وغزة مع حديث بعض الفلسطينيين وحتى على مستوى القيادة عن الدولة الواحدة وأحيانا عن دولة غزة؟

 للإجابة عن هذه الأسئلة يستحسن الرجوع إلى بداية الحديث عن الدولة الفلسطينية في سياق عملية التسوية السياسية.

ارتبط الحديث عن الدولة الفلسطينية في الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر بالتوجه الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية لتسوية سياسية تعترف فيها المنظمة بإسرائيل والانتقال من الشرعية التاريخية للحقوق السياسية للفلسطينيين إلى اعتماد قرارات الشرعية الدولية حول القضية الفلسطينية وهي قرارات غير ملزمة ولا تتطابق مع الحقوق التاريخية للفلسطينيين في كامل أرضهم.

كانت دورة المجلس الوطني الفلسطيني (19) في الجزائر 15 نوفمبر 1988 نقطة فاصلة في الانتقال من الشرعية التاريخية إلى الشرعية الدولية والمراهنة على هذه الأخيرة لقيام الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في خرب يونيو 1967.

ففي هذه الدورة تم صدور ما يسمى (وثيقة الاستقلال) وفيها تم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية بصيغة ملتبسة ومشحونة بمفردات ثورية وطنية وعاطفية تخفي ما تهيئ له القيادة لمرحلة ما بعد الإعلان عن "الاستقلال" وهو الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل، وهو غموض والتباس وضحه البيان السياسي الذي صدر في نهاية الدورة.

بالنسبة لإعلان الاستقلال كان نصه كما يلي: " واستناداً إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين وتضحيات أجياله المتعاقبة دفاعاً عن حرية وطنهم واستقلاله وانطلاقاً من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947، وممارسة من الشعب العربي الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضه. فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف".

اقرأ أيضاً: "البرغوثي": حكومة "نتنياهو" ستحول السلطة لجهاز بيروقراطي خدماتي هامشي

فإن كان إعلان الاستقلال تحدث عن الشرعية التاريخية ولم يُحدد الأراضي التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية ولا الوسائل المتبعة للوصول للدولة، فإن البرنامج السياسي المتزامن مع إعلان الاستقلال كان أكثر وضوحا في تحديد مرجعية الدولة وحدودها حيث جاء فيه: " وانطلاقاً من كل ما تقدم، فإن المجلس الوطني الفلسطيني من موقع المسؤولية تجاه شعبنا الفلسطيني وحقوقه الوطنية ورغبته في السلام، استناداً إلى إعلان الاستقلال الصادر يوم 15/11/1988،وتجاوباً مع الإرادة الإنسانية الساعية لتعزيز الانفراج الدولي، ونزع السلاح النووي، وتسوية النزاعات الإقليمية بالوسائل السلمية، يؤكد عزم منظمة التحرير الفلسطينية على الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، في إطار ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ وأحكام الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وآخرها قرارات مجلس الأمن الدولي 605/607/608 ،وقرارات القمم العربية بما يضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية المستقلة على ترابه الوطني، ويضع ترتيبات الأمن والسلام لكل دول المنطقة ......"

رحبت غالبية دول العالم بهذا الإعلان الذي اعترف بقرارات الشرعية الدولية كمرجعية لحل الصراع بالطرق السلمية وأدرجت الجمعية العامة للأمم المتحدة المسألة الفلسطينية على جدول أعمال دورتها السنوية المنعقدة في جنيف في 13 ديسمبر 1988، وبعد هذا الاعتراف ارتفع عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية إلى 108.

ولكن، الولايات المتحدة وإن رحبت بقبول المنظمة لقرارات الأمم المتحدة، وخصوصاً تلك التي تتضمن الاعتراف بدولة إسرائيل ونبذ العنف، إلا أنها أعلنت عبر وزارة خارجيتها أنها لم توافق على إعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل إنها وظفت قانون المساعدة الخارجية وغيرها من التدابير لثني البلدان الأخرى والمنظمات الدولية عن الاعتراف بدولة فلسطين.

على إثر هذه الدورة للمجلس الوطني تم تسمية الرئيس أبو عمار رئيسا للدولة مع احتفاظه برئاسة منظمة التحرير، ولكن واشنطن التي باشرت حوارات مع المنظمة في تونس رفضت أن تجلس مع أبو عمار بصفته رئيس دولة فلسطين واشترطت حتى تستمر المفاوضات أن يتخلى عن مسمى رئيس الدولة وهذا ما جرى بالفعل، وحتى مع بداية مفاوضات أوسلو فقد نص بيان الاعتراف المتبادل بأن تعترف منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود مقابل اعتراف هذه الأخير بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، كما أن اتفاق أوسلو بحد ذاته لم يذكر بتاتا كلمة الدولة الفلسطينية، وحتى الانتخابات الرئاسية والتشريعية كانت لرئيس سلطة فلسطينية ولمجلس تشريعي لسلطة حكم ذاتي.

 وهذا غاب مصطلح ومسمى الدولة الفلسطينية ورئيس الدولة من كل الوثاق والمراسلات الرسمية وحل محله مسمى السلطة الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية.

استمر هذا الغياب طوال عهد الرئيس الراحل أبو عمار الذي حاول بعد نهاية المرحلة الانتقالية في مايو 1999 تجسيد قيام الدولة عمليا وتجاوز مرحلة  الحكم الذاتي إلا أنه تلقى تهديدات من واشنطن ودول أجنبية وحتى عربية وخصوصا مصر حسني مبارك بأنه في حالة الإعلان عن الدولة ستتوقف عملية التسوية السياسية وتتوقف الدول المانحة عن تقديم المساعدات للسلطة، وفي محاولة لإرضاء الفلسطينيين وفي محاولة لوقف الانتفاضة الثانية التي اندلعت في عام 2000 طرحت الرباعية الدولية خطة خارطة الطريق في أبريل 2002 وفيها تم الحديث عن إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة ومنزوعة السلاح في نهاية المرحلة التي حددتها الرباعية للمفاوضات 2005،  إلا أن شارون وضع 14 تحفظا على الخطة  واجتاح الضفة الغربية وحاصر الرئيس أبو عمار وتم اغتيال أبو عمار 2004 وجرى الانقسام الفلسطيني 2007 الذي خطط له شارون لوأد أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية تضم الضفة وغزة والقدس.

استمر تغييب الدولة الفلسطينية في عهد الرئيس أبو مازن حتى العام 2012. فبعد الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012 أصدر الرئيس محمود عباس في العام الموالي 2013 مرسومين رئاسيين بتغيير صفته من رئيس سلطة إلى رئيس دولة فلسطين مع الاحتفاظ برئاسة اللجنة التنفيذية للمنظمة، كما أصدر المجلس المركزي في دورته المنعقدة برام الله في أكتوبر 2018، قرارًا يؤكد "الانتقال من مرحلة سلطة الحكم الذاتي إلى مرحلة تجسيد الدولة.

نخشى أن هذه الخطوات من القيادة ومن المجلس المركزي جاءت في الوقت الميت إن صح التعبير، ما دامت لا تعبر عن موقف إجماع وطني وما دام الانقسام قائما بل ويتعزز وما دامت السلطة مقيدة بكثير من الالتزامات التي فرضتها اتفاقية أوسلو حتى وإن كانت تعترف أحيانا بنهاية الاتفاقية، كما أن الوضع الدولي والإقليمي وحتى العربي غير مهيئ للتعامل مع نهج جديد للسلطة الفلسطينية يضعها في مواجهة مباشرة مع دولة الاحتلال.

وأخيرا نؤكد على الأمور التالية:

1-    الدولة الفلسطينية ليست منة أو منحة من واشنطن أو إسرائيل أو حتى من الأمم المتحدة بل حق للشعب الفلسطيني مبني على الوقائع التاريخية وحقائق الواقع التي تقول بوجود 14 مليون فلسطيني نصفهم ما زال يعيش على أرضه التاريخية والنصف الآخر في الشتات ينتظر ويعمل من أجل العودة.

2-    التسوية السياسية وما انبثق منها من تصور لحل الدولتين هي إحدى محاولات حل الصراع التي لجأت لها القيادة الفلسطينية، وإن فشلت هذه المحاولة فهناك وسائل أخرى من حق الشعب الفلسطيني اللجوء لها، فخيارات القيادة ليست بالضرورة هي خيارات الشعب.

3-  الانقسام السياسي والجغرافي بين غزة والضفة، ومحاولات إقامة دويلة في غزة ساعد وأوحى لإسرائيل وحلفائها على تصور جديد لحل الدولتين بحيث تكون دولة غزة هي (دولة الفلسطينيين) ويتم ضم الضفة لإسرائيل.

4-  اللجوء للأمم المتحدة كرد على الموقف الأمريكي والإسرائيلي لن يجد نفعا لأن الأمم المتحدة لن تقدم للفلسطينيين الدولة على طبق من ذهب، فالأمم المتحدة عاجزة عن حل أي من الصراعات العالمية والإقليمية الراهنة فكيف ستفرض حلا على إسرائيل.

5-  من هذا المنطلق تأتي أهمية تفعيل العامل الذاتي الوطني ووضع إسرائيل والمستوطنين في مواجهة الشعب الفلسطيني، حيث لم يعد شيئا نخشى فقدانه بعد تشكيل حكومة نتنياهو وممارساتها وتصريحات المتطرفين بن غفير وسموترتش .

6-   المطلوب إدارة حكيمة للصراع مع إسرائيل لأن الوقت الراهن ليس وقت حلول عادلة وعلى القيادة ألا تغامر بالدخول في أي حل نهائي للصراع الآن.

7-  إدارة حكيمة للخلافات الداخلية بين مكونات الحالة الفلسطينية ولظاهرة الانقسام، والتوصل لإستراتيجية وطنية جامعة حتى في ظل وجود انقسام جغرافي، فالثورة الفلسطينية المعاصرة انطلقت وفرضت وجودها في ظل الشتات وعدم وجود تواصل بين التجمعات الفلسطينية وبعيدا عن متاهات السلطة والدولة.

8-  إن عدم موائمة التوازنات الدولية والإقليمية لأهداف حركة التحرر الفلسطينية يجب ألا يؤدي للاستسلام لمشيئة العدو والتخلي نهائيا عن الحقوق والثوابت، بل على الشعب والنخب الوطنية الحريصة على مصلحة الوطن أن تشتغل على إستراتيجية الحفاظ على الذات الوطنية ودعم مقومات الصمود الوطني، وعلى القيادة الفلسطينية والأحزاب إعادة النظر في استراتيجيتهم وأدوات هذه الاستراتيجية.

وأخيرا فإن أي (دولة) تنتج عن تسوية سياسية في ظل المعطيات الراهنة أو يتم فرضها وصناعتها بالقوة ليست هي فلسطين بل كيانا مسخا لن يؤدي إلا لضياع الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني ولإثارة الفتنة والحرب الأهلية حول من يحكم هذا الكيان المشبوه سواء كان دويلة غزة أو كانتونات ومعازل الضفة.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo