القضية الفلسطينية.. من بلفور إلى بن غفير

بن غفير
بن غفير

بالرغم من وصول حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، منحت شخصية مريضة مثل إيتمار بن غفير ــ رئيس حزب «القوة اليهودية» وزارة الأمن الوطني ــ فإن المجتمع الإسرائيلي يعج بتحولات كبيرة، أخذ بعضها ينظر بعين ناقدة للفكرة الصهيونية من أساسها. بل إن هناك رفضاً قوياً حتى من تيار الوسط الصهيوني لوصول شخصيات متطرفة مثل بن غفير إلى وزارة الأمن الوطني. فمنذ أيام قليلة، استقالت سفيرة إسرائيل في باريس من منصبها احتجاجاً على توزير بن غفير.

أما من الناحية الفكرية، فعلى مدى السنين الخمس الأخيرة، نشرت كتب عديدة من يهود ناقدين للفكرة الصهيونية. وأنا لا أقصد كتاباً مثل إيلان بابيه IlanPappé الذي يفند الفكرة الصهيونية من أساسها، وإنما مفكرون وكتاب ناقدون بشدة للتحولات المتطرفة في إسرائيل، مذكرين بأن تأسيس إسرائيل بالطريقة التي تمت في عام 1948 كان أساساً لانتصار فكر يهودي متطرف على فكر آخر كان يدعو إلى تأسيس دولة تجمع بين اليهود والفلسطينيين. وقراءة موضوعية لتاريخ الهجرات اليهودية منذ نهاية القرن التاسع عشر، مروراً باحتلال بريطانيا لفلسطين في 1917، ثم صدور وعد بلفور الذي يبالغ العرب بأهميته التاريخية في تأسيس إسرائيل وإلى التأسيس نفسه، فإن تأسيس إسرائيل لم يكن نتيجة حتمية، وإنما كان من النتائج العرضية لنهاية الحرب العالمية الثانية، وقتل ملايين من اليهود على يد النازيين، برر أو سهل أو أدى إلى تأسيس إسرائيل بالطريقة الوحشية التي أسست بها وبنكران لحقوق الشعب الفلسطيني.

ومن بين الكتب المهمة التي صدرت في السنوات الأخيرة من قبل إسرائيليين ناقدين لإسرائيل، كانت «وطني الموعود» لأري شافيت، و«السعي نحو السلام» لغيرشون باسكن، و«جمهورية حيفا» لعمري بوبهم Omri Boehm، والكتابان الأولان مترجمان إلى العربية. والأخير يناقش في كتابه بعض الأفكار «الصهيونية» التي دعت في وقتها إلى تأسيس دولة تجمع بين العرب واليهود. فالهجرات اليهودية لفلسطين سبقت وعد بلفور 1917، بل إنها سبقت المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد برئاسة هيرتزل عام 1897. فيذكر رشيد الخالدي في كتابه «الهوية الفلسطينية» أن 21 مستعمرة صهيونية أسست قبل المؤتمر الصهيوني الأول. ومنذ انعقاد المؤتمر عام 1897 وإلى الحرب العالمية الأولى عام 1914، تم تأسيس 32 مستعمرة صهيونية. وهؤلاء الذين أسسوا هذه المستعمرات كانوا هاربين من اضطهاد اليهود في روسيا والإمبراطورية الهنغارية النمساوية. وهناك نخبة أقل تديناً منهم هربت إلى أوروبا الغربية، من بينها شخصيتان مهمتان هما لوسين ولف Lucien Wolf وحاييم وايزمان. فكلاهما أصبحا بريطانيين. وكلاهما نشيطان في القضية السياسية اليهودية. وأقتبس من مقال كنت قد نشرته بعنوان: وعد بلفور ومستقبل العلاقة العربية الإسرائيلية في القبس، منذ سنتين: «إن الاثنين - ولف ووايزمان - ساهمت في تشكيل وعيهما المذابح التي تعرض لها اليهود الروس عام 1881. لكن لوسين ولف وجد أن خلاص اليهود يكمن في الاندماج بمجتمعات ليبرالية متفتحة تحترم جميع الديانات، بينما وجد وايزمان أن خلاص اليهود يكمن في تحويل اليهود إلى قومية من خلال الصهيونية. هذا وعلى الرغم من تأسيس إسرائيل كدولة، فلا يمكن أن نعتبر أن خيار وايزمان كان أفضل لليهود. فما زال في بريطانيا أكثر من 300 ألف يهودي بريطاني لم تغرهم إسرائيل».

وللعلم، فإن الوزير البريطاني الوحيد الذي عارض إصدار وعد بلفور كان يهودياً، والذي كان يتفق مع لوسين ولف بأن الحل للمشكلة اليهودية يكون بدمج اليهود في مجتمعات ليبرالية منفتحة.
ووصول عناصر متطرفة إلى قيادة وزارات مهمة في إسرائيل ــ وعلى سوئه ــ ممكن أن يكون مفيداً للقضية الفلسطينية. فمن ناحية هو يكشف خطورة تأسيس دولة استناداً إلى أيديولوجية دينية وعواقبها الخطيرة حتى على اليهود أنفسهم. فمع أن مؤسسي الحركة الصهيونية هم علمانيون استغلوا الدين وحولوه إلى قومية، فإن أحفادهم من الذين ظلوا يؤمنون بعلمانية الحركة الصهيونية أخذوا يكتشفون خطورة تدهورها إلى حركة دينية متطرفة، أخذت تقسم المجتمع اليهودي الإسرائيلي. هؤلاء العلمانيون اليهود سيفضلون العيش مع عربي من الناصرة أو بئر السبع، قد يكون مسيحياً أو مسلماً أو درزياً، على العيش مع اليهود الحريديم الداعمين لشخصيات مثل إيتمار بن غفير.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن وصول اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى الحكم بدأ يضعف خصوصية إسرائيل وديموقراطيتها لدى الأوروبيين والأميركيين، حتى مع اليهود أنفسهم. فقد نشرت أكثر من صحيفة أميركية بتاريخ 13ـــ‏12ـــ‏2022 أن رابطة المحامين اليهود في الولايات المتحدة أصدرت بياناً يحذر من محاولة أعضاء متطرفين في الكنيست الإسرائيلي التدخل في حرية القضاء الإسرائيلي، خصوصاً في ما يتعلق بالحريات الفردية وحقوق الإنسان. كما حذر البروفيسور يوعاف فورمر من جامعة تل أبيت الكنيست الإسرائيلي من أن يحذو حذو الكونغرس الأميركي من التدخل في حرية القضاء. أما صحيفة هآرتس الإسرائيلية، فقد نشرت مقالاً لشوك فرايلش بتاريخ 14ـــ‏12ــــ‏2022 وذلك بعد نتائج الانتخابات التي أوصلت اليمين المتطرف إلى السلطة، ذكر فيه: «إن الرصاصة التي قتلت إسحق رابين عام 1995 ما زال أثرها مستمراً في تقويض القيم الديموقراطية في إسرائيل، حيث إنها لم تقتل قائداً تاريخياً فقط، وإنما قتلت فرصة السلام مع الفلسطينيين، وبوصول هؤلاء المتطرفين إلى الحكم، فإنها أصبحت تهدد الأساس الذي بنيت عليه إسرائيل، وعلى نظامها القضائي والنظام الديموقراطي ونسيج المجتمع».

وعلى المستوى الفلسطيني، فإن هذا الشعب لن ينسى وطنه. وفي هذا المجال، حضرت في 7 ديسمبر الماضي محاضرة عن وعد بلفور مزجت الفني بالتاريخي، قدمها الدكتور سلمان أبو ستة في مقر الجمعية الثقافية النسائية. ويعد أبو ستة من أبرز الباحثين الذين بذلوا جهوداً كبيرة ومميزة لحفظ الذاكرة الفلسطينية. وقد أصدر كتاباً وخرائط مفصلة حول أراضي فلسطين وقراها ومدنها قبل النكبة وبعدها. وفي المحاضرة، استمعنا إلى تسجيل لمحاضرة كان قد ألقاها أبو ستة في جامعة إدنبرة في اسكتلندا عن وعد بلفور. وفي المحاضرة كان أبو ستة يوجه خطابه إلى صورة لآرثر بلفور وضعها بجانبه. وبلفور اسكتلندي وكان رئيساً تشريفياً لجامعة إدنبرة إلى وفاته 1930. وقد استعرض أبو ستة تاريخ فلسطين منذ القرن التاسع عشر، رابطاً سرده بتاريخ عائلته التي كانت تسكن في بئر السبع جنوب فلسطين، وتحدث عن تاريخ النزوح الفلسطيني، مركزاً على حق العودة المكفول من «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان». كما تحدث عن لجوء عائلته إلى غزة. وبعد أن استمعنا إلى تسجيل لمحاضرته في جامعة إدنبرة، أضاف هو بنفسه بعض المعلومات، داعياً في النهاية إلى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، مظهراً حماساً وعاطفة ولا عقلانية.

وكان معظم الحضور من الفلسطينيين المتعلمين الغائب عن معظمهم التحولات التي يمر بها المجتمع الإسرائيلي. ورأيت أن معظمهم رحب بنداء تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ولم يتجرأ أي منهم ــ مع أن بعضهم أكاديميون ــ أن يطرح سؤالاً واحداً يحول الحماس إلى واقع، أو اهتماماً حقيقياً بوضع الفلسطينيين إن كانوا في غزة أو في مخيمات الأردن وسوريا ولبنان، كما لم يتطرق أي من الحضور إلى وضع أو مستقبل الفلسطينيين في الضفة الغربية، أو لماذا لم تجرِ انتخابات تشريعية فلسطينية منذ عام 2006؟

لم يسأل أحد بعد أن أصبحت الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة الغربية بعيدة المنال، فكيف ستحرر فلسطين من النهر إلى البحر؟ لذا، أرى أن مستقبل الفلسطينيين ربما سيقرره «الفلسطينيون المنسيون» ــ على حد تعبير ايلان بابيه ــ الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية هؤلاء الذين ناضلوا من أجل الحصول على مواطنتهم الكاملة داخل إسرائيل. فيبدو أن المستقبل أصبح إلى أن تتحول إسرائيل الى دولة ثنائية القومية تضم العرب واليهود. وإن كان من يؤمن بهذه الفكرة من اليهود أقلية في الوقت الحاضر، فالتطرف اليميني الذي يقوده يهود من أمثال بن غفير سيجذب يهوداً أكثر لهذه الفكرة.

المصدر : جريدة القبس الكويتية
atyaf logo