الاعتقال الإداراي للشهداء

اعتصام ضد احتجاز جثامين الشهداء
اعتصام ضد احتجاز جثامين الشهداء

لم تقوَ يدا عمر ذو الملامح الجميلة، ابن السبعة أعوام على حمل صورة والده صالح البرغوثي من قرية كوبر قضاء رام الله، الذي لا يعرف شيء عنه سوى انه شهيد. جرت العادة في الاعتصامات الاسبوعة أمام مقرات الصليب الأحمر أن تكون مطالبة بالافراج عن الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، إلا أنها اخذت صورة أخرى في السنوات الأخيرة الماضية، وبات سقفها المطالبة بالإفراج عن ابناءهم الشهداء الاسرى في مقابر الأرقام وثلاجات الأسر؛ كي يتسنى لهم دفن فلذات اكبادهم بطريقة تليق بالشهداء.

عقب كل حادثة اغتيال لفلسطيني، أو عملية اعدام على أي حواجز الموت المنتشرة على طول الضفة الغربية، تثار قضية جثامين الشهداء المحتجزة في مقابر الأرقام، هذه السياسة الاستعمارية الإسرائيلية التي انتقلت من الدفن تحت التراب إلى أسر داخل ثلاجة. ليس ذلك فحسب، بل أن هنالك أسرى استشهدوا داخل السجون من ثم تم احتجاز جثامينهم في ثلاجات، بسبب سياسة الإهمال الطبي الطبي بالدرجة الأولى، مثل الشهيد الأسير أنيس دولة من قلقيلية والمحتجز جثمانه منذ عام 1980. مما يعني بأن إسرائيل اعتقلت الفلسطيني مرتين الأولى في حياته والثانية بعد موته.

يصادف 27 أغسطس \اب من كل عام اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة، الذي اقرته الحكومة الفلسطينية عام 2008. ومن الجدير ذكره بان الأحصائيات تشير إلى أن ما يقارب من 117 شهيدًا معتقلة جثامينهم، في المقابر والثلاجات. بالتأكيد ليس آخرهم الشهيد الطالب في جامعة بيرزيت عامر حسام بدر من بيت حنينا، الذي ارتقى بعد تنفيذه عملية طعن في القدس يوم الخميس 3.11.2022.

لماذا اعتقال الشهداء ؟

من البديهي أن يتساءل المرء وأي عقاب اكثر من الموت؟، لماذا الاعتقال الإداري – ان صح الوصف- بحق الشهداء؟، وما الفائدة التي تجنيها إسرائيل من وراء ذلك ؟

تجيب سهاد الناشف[1] على ذلك بقولها "إن بينية - حالة ما بعد الموت وقبل دفن - الجسد الفلسطيني المعتقل في مقابر الأرقام أو في ثلاجات الأسر الإسرائيلية، وتحولاته وانتقاله بين تعريفات متعددة، كنوع من تعزيز السيطرة على الأرض والإنسان".

من الجانب الآخر تجيب البروفسور مئير فايس في صفحات كتابه الذي حمل عنوان "على جثثهم الميتّة" عن السؤال، ويرى أن الغاية الكامنة وراء الاحتجاز يتمثل في عمليات سرقة أعضاء من جثث الشهداء لزرعها في أجساد المرضي من الإسرائيليين، إضافة إلى استعمالها لإجراء الأبحاث عليها.

اقرأ أيضاً: دراسة تحذر من خطورة تحريف تمويل "الأونروا" عن وجهته الصحيحة

كما اشار فايس التمييز الجلي في تعامل معهد التشريح العدلي الرسميّ في أبو كبير مع جثث الإسرائيليين ومنع استئصال أعضاء منها، وفي المقابل يسمح باستئصال أعضاء من جثث الفلسطينيين وتخزينها في بنك الأعضاء والاستفادة منها بشكل خاص للمرضى الإسرائيليين. وأشار الكتاب إلى أنّ فترة الانتفاضة الأولى عام 1987 شهدت أكبر عمليات سرقة الأعضاء خاصة مع زيادة عدد جثث الفلسطينيين، لافتًا إلى أنّ ذلك جاء بعد ان تلقى المعهد أمرًا عسكريًّا، ودون أي إذن من عوائل الشهداء، أو حتى معرفتهم على الأقل[2].

هذا يؤكد الشكوك المتظافرة حول سرقة أعضاء الشهداء، ومن ابرز الأدلة المرئية على ذلك التغيرات على بعض الجثامين المجمدة عند تسليمها، واشتراط عدم فتح النعش أو الكيس، وفي بعض الأحيان يشترط الجيش الإسرائيلي دفن الجثمان مباشرة فور تسلمه، لا سيما في القدس والمناطق المحتلة عام 1948.

المحكمة العليا تنظم الموت والدفن

مما لا شك أن المحكمة العليا الإسرائيلية تساهم تنظيم العنف، ففي ممارسة إعتقال جثامين الفلسطينيين تساهم المحكمة بالتقرر في مصير هذه الجثامين المعتقلة، سواء من حيث السماح بتسليمها لعوائلهم أو الإبقاء عليها محتجزة في مقابر الأرقام أو ثلاجات الأسر، أو من حيث توفير لغطاء قانوني لمتخذي القرار على الرغم من ان هذه الممارسة تعتبر مخالفة لقرارات المحاكم الإسرائيلية بشكلٍ عام، وتناقض قانون "كرامة الإنسان وحريته" على وجه الخصوص، ففي عام 2019 أقرت المحكمة العليا باحتجاز جثامين الشهداء؛ لاستخدامها ورقة مساومة مستقبلية، مبادلتها في أي صفقة تبادل أسرى.

يتشابه دور المحكمة العيا في تنظيم الدفن مع دوها في تنظيم الموت أيضًا، حيث عملت المحكمة في سنوات الانتفاضة الثانية على تطور البنية القانونية للاغتيالات، واقراها نظرية "التناسب" ضمن مبدأ أهون الشرين الذي التي لجأت إليها محكمة العدل العليا عندما طلب منها إصدار حكم في قضايا تتصل باعتبارت الأمن دليلًا على ذلك، كما في إقرار "المبدأ الإنساني" كمصطلح قانوني يؤثر في تصميم مختلف وسائل التحكم الإسرائيلية أيضًا، ما يراه وايزمان محاولة من الدولة لتخفف وطأة العنف؛ كي تشتت الانتباه عن اللاشرعية للمشروع برمته، هذا ما أكدته لانا تاتور بأن القانون في إسرائيل يعكس عملية مستمرة للتوفيق بين الشكل المرغوب فيه من الليبرالية العنصرية الإسرائيلية والاستعمار الاستيطاني وأدرك قادة إسرائيل أن شرعية المشروع لدى الغرب مشروطة باستخدام الخطاب الليبرالي [3]، من الجدير ذكره أن التنوع في القرارات نابع من اختلاف شكل السيطرة على الأرض.

السيطرة والعنف

في الواقع يختلف العنف الممارس في الضفة عن الممارس في غزة من حيث الشكل؛ يعود ذلك إلى درجة السيطرة على الأرض، عند اسقاط العلاقة بين السيطرة والعنف على قضية اعتقال الجثامين نرى بأن عدد الجثامين الأسيرة من قطاع غزة أقل بكثير من الجثامين الأسيرة من الضفة الغربية، استنادًا للفصل وإعتبار غزة منطقة تخوم ذات سيطرة أقل، ما يعني أنه كلما انخفضت السيطرة على الأرض قل هذا النوع من العنف. وبالتالي، فإن تباين السيطرة ينتج نوعًا خاصًا من العنف من وجهة نظر نيف غوردون.

ختامًا، إن في سياسة اعتقال الجثامين استعمارًا للعاطفة الفلسطينية، من خلال التحكم بشكل التشييع، وأن ما يمر به الجسد المعتقل من عمليات بيولوجية تزعج أنوف البشر الأحياء من حوله، الأمر الذي يحفز المجتمع على دفنه وإقصائه[4]، وبالتالي لا يأخذ الشهيد حقه من التكريم عند الدفن، مثلما يحدث في عمليات الاغتيال من تفحم للجثث وتقطيعها إلى اشلاء، مما يمنع من القاء نظر الوداع عليه والإسراع في دفنه.

 

المراجع

[1] سهاد ظاهر- ناشف، "الاعتقال الإداري للجثامين الفلسطينية: تعميق الموت وتجميده،" مجلة الدراسات الفلسطينية، ع. 107 (صيف/ 2016): 19- 35.

[2] يتسحاق ليؤور،انطباعات عن الاحياء والأموات في المعهد البثالوجي أبو كبير، هآرتس، 2014\03\22، انظر\ي الرابط: https://cutt.us/PQ06N

[3] Lana Tatour, “The Nation-State Law Negotiating Liberal Settler Colonialism,” Critical Times 4, no. 3 (December/ 2021): 577- 587

[4] الناشف،ص5، مرجع سابق

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo