بعد العدوان.. هذه مأساة انتظار إعمار البيوت المدمرة بغزة

قصف المنازل بغزة
قصف المنازل بغزة

كثيرة هي المآسي التي ولدتها الحروب الإسرائيلية المتتابعة على قطاع غزة، والتي عادةً ما تُخلف الشهداء والجرحى والتدمير والخراب للبيوت الآمنة، فضلاً عما تخلفه من آثار نفسية كبيرة على المكلومين والمتضررين من سكان القطاع، خاصة الذين يضحون بلا مأوى ولا ذكريات ولا يتلقون تعويضا أو إعادة إعمار لبيوتهم التي فقدوها في غمضة عين.

وشن جيش الاحتلال الإسرائيلي في الخامس من أغسطس 2022 عدواناً جديداً على قطاع غزة استمر ثلاثة أيام، وأسفر عن استشهاد 44 مواطناً فلسطينياً، بينهم 15 طفلاً و4 نساء وإصابة 360 بجراح مختلفة، بالإضافة إلى تدمير عشرات المنازل بشكل كلي ومئات أخرى بشكل جزئي.

وخلال حربي عامي 2014 و2021 على القطاع، ركز الاحتلال الإسرائيلي على تدمير الأحياء الفلسطينية بقصف مدفعي وجوي مكثف، إلى جانب استهداف الأبراج السكنية في قلب مدينة غزة، في محاولة لوقف المقاومة والضغط على حاضنتها الشعبية.

العدوان الأخير.. شهادات حية

وبدأ الاحتلال عدوانه الأخير على قطاع غزة، باستهداف شقة سكنية في برج فلسطين السكني في حي الرمال وسط مدينة غزة، حيث خلفت الغارة شهيداً وجرحى، وتضررت أجزاء كبيرة من البرج ومن المباني والمحال التجارية المحيطة به.

وفي اليوم الثاني من العدوان، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية بالصواريخ منزلين لعائلتي شملخ وأبو حصيرة في منطقتين منفصلتين في مدينة غزة، حيث يتألف كل منزل منهما من ثلاثة طوابق ويقطنهما ما يزيد عن 50 فرداً، فتحول المنزلين إلى كومة من الركام وتشرد ساكنيه، كما لحقت أضرار جسيمة بمنازل المواطنين المجاورة.

وفي نفس اليوم، ومع ساعات المساء كثفت الطائرات الإسرائيلية من غاراتها على بيوت المواطنين الآمنين، حيث استهدفت منزلاً في قلب حي سكني "حي الشعوت" المكتظ بالسكان في مدينة رفح جنوب القطاع، الأمر الذي خلف مجزرة أوقعت ثمانية شهداء من بينهم أطفال ونساء وعشرات الجرحى، عوضاً عن تدمير العديد من المنازل الملتصقة ببعضها إما بشكل كلي أو جزئي.

ويروي المواطن محمد شعت اللحظات التي سبقت القصف الإسرائيلي المباغت لحي الشعوت برفح، حيث كان يتابع مع أفراد أسرته أخبار العدوان، وفجأة سمع صوت انفجار ضخم يهز أركان بيته والمنطقة من حوله، مشيراً إلى أنه وجميع أفراد أسرته سقطوا على الأرض بين أثاث منزلهم المترامي مذعورين لا يعون حقيقة ما يجري.

ويضيف أنه تمالك نفسه بسرعة، وعمل على إخلاء أفراد أسرته ليتضح بعد خروجه أن دماراً هائلاً يحيط بمنزله جراء استهداف وتمدير منزل جيرانه ووجود عدد من الشهداء والجرحى، الذين يطلبون المساعدة، مؤكداً أنه وبشهادة الكثير من جيرانه لم يأتهم أي تحذيرات بالقصف، وإنما جاء مباغتاً وعنيفاً وطال العديد من المنازل في الحي.

اقرأ أيضاً: كتٌاب: الجهاد وقع فريسة خطة إسرائيلية والحروب لا تدار بالعواطف

وقد بدا الألم والحسرة في حديث شعت لـ"زوايا" على ما أصاب جيرانه من فقد وألم، ومن ثم ما لحق بمنزله ومنازل جيرانه وأقاربه من أضرار، حيث غادرها بعضهم لاستئجار البديل لعدم صلاحيتها للسكن، فيما بقي هو وآخرين ينتظرون رحمة الله في أن تنظر لهم أي جهة للمبادرة بإصلاح بيوتهم المتضررة.

أما المواطن نبيل الطهراوي، والذي فقد ابنة شقيقته آلاء الطهراوي (24 عاماً) حيث قضت تحت أنفاض منزلها في حي الشعوت، فقد قال إن القدر أنقذ زوج آلاء وابنها ذو العامين حين اصطحب الوالد الابن قبل القصف بلحظات ليشتري له حاجيات من الدكان القريب.

ويشير الطهراوي إلى أن نحو عشر منازل تدمرت في هذا الحي بشكل كامل وعشرات أخرى بشكل بليغ وأخرى بشكل جزئي، متسائلاً "من لهذه العائلات التي تشردت من بيوتها في غمضة عين؟".

في حين تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حديث الطفلة الناجية من الموت، والتي كان وجهها مليئاً بالدماء، فما إن وصلت إلى المستشفى سألها الصحفيون عن أسرتها وعما جرى لمنزلهم في حي الشعوت برفح، فعبرت عما يجول بخاطرها قائلة "إسرائيل دولة إرهابية تقتل الأطفال وتقصف المنازل الأمنة دون سابق انذار(..) أساساً اليهود مش دولة، إسرائيل تحت رجلي".

إحصاءات ومعوقات

ما سبق ذكره من فصول معاناة الغزيين بعد كل حرب يتعرضون لها، هو غيض من فيض حول جملة المنازل التي استهدفها الاحتلال وتم هدمها بشكل كلي وشرد أصحابها، فضلاً عن عشرات المنازل التي تضررت بشكل بليغ ولم تعد صالحة للسكن، ومئات المنازل التي تضررت بشكل جزئي وتحتاج إلى تعويض وإصلاح، وفقاً للإحصاءات الأولية التي أعلنت عنها الجهات المختصة في غزة.

وفي تفاصيل هذه الإحصاءات، فقد ذكر م. محمد عبود مدير عام الإعمار وشؤون المديريات بوزارة الأشغال والإسكان العامة بغزة، أنه تم حصر الأضرار والخسائر الأولية في العدوان الأخير على قطاع غزة في أغسطس 2022 والتي تقدر بـ(3 مليون دولار).

وأوضح عبود في حديث خاص لـ"زوايا" أنه جراء هذا العدوان هُدمت 20 وحدة سكنية بشكل كلي، وتضررت 71 وحدة أخرى بشكل جزئي بليغ غير صالح للسكن، فيما تضررت 1675 وحدة سكنية بشكل جزئي، متوقعاً أن تفوق عدد الوحدات التي تضررت في قطاع الإسكان الـ 2000 وحدة بعد اكتمال حصر الأضرار بشكل نهائي.

وبما يخص إعمار البيوت المتضررة في الحروب السابقة، فقد تطرق عبود إلى أن هناك ما يقارب 2200 وحدة سكنية مهدومة كلياً متبقية، ولم يتوفر تمويل لإعادة إعمارها حتى الآن، حيث تقدر تكلفتها بقرابة 100 مليون دولار، بالإضافة إلى تعويضات الأضرار الجزئية السكنية والتي تقدر بقرابة 110 مليون دولار.

وأضاف "ناهيك عن تعويضات أضرار القطاع الاقتصادي المتعلقة بقطاعات الصناعة والتجارة والزراعة وباقي القطاعات الأخرى، التي لم يتم إعادة إعمارها حتى الآن، والتي تقدر بإجمالي 875 مليون دولار".

وأشار عبود إلى أهم المعيقات التي تواجهها وزارته في ملف إعادة الإعمار، وهي عدم وجود تمويل يغطي إعادة الإعمار، وعدم وجود آلية انتقال سلس لأموال المانحين للقطاع، لافتاً إلى أن هناك معيقات في تحويل هذه الأموال، قائلا "لو توفر التمويل فإن هناك معيقات أمام تحويل هذه الأموال للقطاع".

ونوه عبود إلى عدم وجود جهات داعمة لإعادة اعمار الأبراج التي دمرت في عدوان 2020-2021، وهي أكثر من عشرة أبراج، لافتاً إلى أن هناك أبراجاً مدمرة من حروب سابقة ما زالت على حالها ولم يتم إعادة بنائها.

وناشد عبود دول مجلس التعاون الخليجي وخصوصاً المملكة العربية السعودية والكويت، الذين كانت لهم إسهامات كبيرة وأساسية في إعمار ما دمره الاحتلال بعد حرب 2014، كما دعا دول الاتحاد الأوروبي والدول الصديقة، إلى تقديم الدعم العاجل واللازم لاستكمال برامج الإعمار حتى يتم إيواء الأسر التي شردت من بيوتها والتخفيف من آلامها ومعاناتها.

2.jpeg

 فرص الإعمار

وحول فرص الإعمار والتعويض بعد العدوان الأخير، والذي عادةً ما يتعطل كما كل الحروب السابقة، يرى الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي عيسى سعد الله، أنه درجت العادة بأن تنفيذ عملية إعادة الاعمار في قطاع غزة مرهونة بموافقة الاحتلال الإسرائيلي، والتي تتخذها ذريعة وورقة ضغط وابتزاز من أجل الضغط على حركة حماس واجبارها على تقديم تنازلات سياسية وأمنية في ملفات عدة يعتبرها الاحتلال مهمة بالنسبة له، وعلى وجه الخصوص ملف جنودها الأسرى لدى الحركة، وكذلك فرض حالة من الهدوء والتهدئة طويلة الأمد.

وقال سعد الله لـ"زوايا" إن الاحتلال الإسرائيلي لن يسمح بتسريع عملية الإعمار كما حدث في الحروب السابقة، والتي تسير حتى الآن بشكل بطيء جداً، ومن خلال قنوات مانحة محددة على رأسها قطر والأونروا في عملية إعادة بناء المنازل المدمرة كلياً، والتي لم يتم انجاز نحو ثلث ما تم تدميره خلال عدوان شهر مايو 2021، والبالغ عددها نحو 1700 منزل، فضلاً عن آلاف المواطنين ممن تعرضت منازلهم لأضرار مادية جزئية بدون تعويضات حتى اللحظة.

اقرأ أيضاً: العدوان على غزة.. مواجهة خطرة وسط حسابات معقدة

وفيما يخص إعمار ما تم تدميره خلال العدوان الأخير، فيعتقد سعد الله أنه يمكن التوافق مع عدد من الجهات المانحة المؤثرة على إلحاقه بملف إعمار عدوان 2021، بسبب حجم الدمار المحدود الذي حل بالمنازل مقارنة بالحروب السابقة.

وأوضح سعد الله أنه بإمكان المؤسسات المحلية والدولية العاملة في قطاع غزة تنفيذ إعمار هذه المنازل من خلال مشاريع مشابهة لمشاريع أخرى نفذتها على مدار السنوات الماضية، حيث لم يستبعد أن تعلن بعض هذه المؤسسات عن تنفيذ مشاريع للبدء بعمليات إعمار وتعويض للمتضررين من العدوان الأخير.

وفي وقت لاحق، أعلن الهلال الأحمر القطري أنه سيبدأ بتدخلات عاجلة بقيمة 1.1 مليون دولار، لمعالجة آثار العدوان في غزة تشمل 30 ألف طرد غذائي، وإصلاح 250 منزل مدمر، ودعم طارئ للمستشفيات، وترميم خطوط المياه والصرف الصحي.

1.jpeg

آثار نفسية عميقة

ومما لا شك فيه أن حرب الأيام الثلاثة الأخيرة كانت قصيرة وخاطفة، لكنها تركت آثارا نفسية عميقة على سكان القطاع، وبحكم عمل الباحث والمحاضر الجامعي د. يوسف عوض الله طبيباً نفسياً قال: "لا أبالغ إن قلت إن مثل هذه الحروب تمتد آثارها النفسية السلبية لفترة لا تقل عن أربعين سنة، كما وتخلف أضراراً نفسية واجتماعية خطيرة، فورية وبعيدة الأمد".

ويرى عوض الله في حديثه لـ"زوايا" أن هدم البيت ليس بالأمر الهين، حيث يشعر الشخص بفقدان الأمن و الأمان و الشعور بالضياع، ناهيك عن أنه يخلف شعوراً بالخوف، بسبب إمكانية التعرض للمصاعب كونه دون مأوى.

وأضاف: "إن هدم البيت يهدم معه ذكريات الطفولة الجميلة واللحظات السعيدة التي عاشها الشخص في كنف البيت والأسرة، كما ويلازم الشخص المهدوم بيته شعور بفقدان الأمن بالمحيط الذي يعيش فيه، علاوة على أعراض القلق والاكتئاب والبكاء والعصبية والأرق والكوابيس الليلية والشعور بالذنب لأنه لم يستطع الدفاع عن بيئته".

وقد تنتاب الشخص المهدوم بيته أعراض جسمية مثل الدوار وأوجاع الرأس والصدر وصعوبات في التنفس، عدا عما ينتابه من شعور بالعجز وثقل المسؤولية، وانعدام الشعور بالخصوصية والراحة، أما فيما يتعلق بالأطفال فعلاوة على ما ذُكر فإن الأطفال غالباً ما يعانون من التبول الليلي اللاإرادي، واضطراب ما بعد الصدمة، حسب المختص عوض الله.

وحول ما يلزم هذه العائلات لتمارس حياتها بشكل طبيعي وخاصة الأطفال، فقد أوصى عوض الله بالتركيز في المراحل الأولى على توفير المأوى البديل أولاً، بالإضافة إلى توفير كل مستلزمات الحياة الضرورية من مأكل ومشرب وملبس.

وذكر أن الدعم النفسي الاجتماعي للأطفال وحتى للبالغين لا يقل أهمية عما ذكر آنفاً، حيث إن الدعم النفسي مهم للغاية خاصة في الأيام الأولى بعد هدم البيت، ويضم الدعم النفسي جلسات التفريغ النفسي الفردية والجماعية، العلاج بالرسم واللعب، العلاج بالغناء، العناية الذاتية الموجهة، التنشيط السلوكي، التدريب على تمارين الاسترخاء، تمارين التنفس العميق، وغيرها من التقنيات المشابهة.

ووفقاً لعوض الله، قد نلجأ أحياناً إلى وصف الأدوية النفسية لبعض الأشخاص الذين يعانون من أعراض نفسية صعبة مثل الأرق الشديد، انخفاض المزاج، التفكير بالانتحار، مركزاً على نقطة مهمة ألا وهي الدعوة إلى عدم الشعور بالوصمة كون الشخص يتوجه للاختصاصي أو الطبيب النفسي، قائلا "قد آن الأوان لأن يتخلص المجتمع من هذه الوصمة التي من شأنها أن تفاقم الأزمات النفسية وتزيدها تعقيداً".

وتساءل عوض الله "من قال إن الذي يذهب للطبيب النفسي هو شخص مجنون أو فاقد لعقله؟" مجيباً "أنا أرى أن هذه واحدة من المفاهيم الخاطئة التي يجب محاربتها بشدة".

وفي ختام حديثه، دعا إلى أن تتكاثف جهود مؤسسات المجتمع المحلي وحتى المؤسسات الدولية من أجل تضميد هذه الجروح النفسية الغائرة التي خلفها العدوان الأخير على غزة.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo