الشرق الأوسط في ظل المصالحات والتحالفات الجديدة

ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي بايدن في جدة
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي بايدن في جدة

(1) تغيرات دراماتيكية

تبدو صورة خريطة الشرق الاوسط في الاونة الاخيرة متغيرة ومتجددة, وتشهد تغيرات دراماتيكية سريعة, لا تكاد تجد فيها ما يدل على وجود القضية الفلسطينية او التطرق الى هذا الصراع الطويل الذي يزداد عمقا وتأزما , بل تجدها خارطة تقوم على تبادل المصالح وتعزيز التبادل الاقتصادي والتجاري بين دول المنطقة , والادهى من ذلك كله دمج دولة الاحتلال بكل ما تلبس بها من جرائم وعنصرية وتجاهل للحقوق الفلسطينية في منطقة الشرق الاوسط باعتبارها "الحامي القوي" الذي يدافع عن دول الشرق الاوسط ضد تهديدات موهومة...

و لم تشهد منطقة الشرق الأوسط مثل هذه التغيرات السريعة - والمفاجئة في بعض الاحيان- في خارطتها السياسية خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث ان كثيرا من الدول تحركت لإعادة النظر في أولويات سياساتها الخارجية، وذلك بهدف تحقيق مصالحها الامنية والاقتصادية دون أي اعتبار لأي مواقف او مبادئ كانت تتبناها في السابق, خاصة فما يتعلق بالموقف من الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.

وقد تجلت مظاهر هذه التغيرات في العديد من اللقاءات والزيارات الرسمية والتي تحولت من الصيغة الثنائية إلى الصيغة الجماعية, مثل اللقاءات التي جمعت بين زعماء البحرين والأردن ومصر، أو الجولة التي يقوم بها ولي العهد السعودي إلى كل من مصر والأردن وتركيا، أو تلك التي جمعت بين زعماء وقادة الإمارات مع مصر والأردن والعراق.

صحيح ان مجلة سياسية متخصصة وخبيرة وذات باع طويل في تحليل المعلومات السياسية مثل "فورن بوليسي" وصفت المصالحات في الشرق الاوسط بأنها "لن تدوم لأنها تقوم على رمال متحركة", لكن في نفس الوقت فان دول المنطقة ماضية في ازالة الخلافات بينها واسترجاع العلاقات, بل والذهاب بعيد نحو تشكيل تكتلات أمنية واقتصادية.

(2) على قاعدة المصالح

ان المتتبع لهذه اللقاءات والمصالحات التي شهدتها المنطقة تشير بقوة الى أن هذه الدول وضعت ضمن أولوياتها البحث عن مصالحها الاقتصادية ومحاولة الخروج من حالة العزل التي فرضت عليها بسبب النزاعات التي تسببت في تصدع علاقتها مع دول المنطقة.

اقرأ أيضاً: تواصل التحذيرات لهنية.. العلاقة مع النظام السوري خطأ ومفسدة

والأخطر من هذه المصالح الاقتصادية ان دولة الاحتلال اصبحت جزءا من هذه الزيارات واللقاءات , فقد تم تبادل الزيارات بين اسرائيل وكل من تركيا والامارات, وجرى الحديث عن حلف دفاعي يضم دولة الاحتلال, كما جرى الحديث عن تكتلات اقتصادية خاصة فيما يتعلق بموارد الطاقة والتي قفزت الى رأس الاهتمامات بعد الحرب الروسية الاوكرانية.

من الواضح ان البعض يحاول ان يعطي الصبغة السياسية لهذه التغيرات من خلال ابراز ان الشرق الاوسط على تناقض مع ايران وانها تشكل تهديدا لسلام وأمن المنطقة, وأنه ينبغي الاسراع في خلق منظومات تحد من "رعب" ايران, خاصة بعد ظهور علامات واضحة على تراجع امكانية التوصل الى اتفاق بين الغرب وايران حول نشاطها النووي, لكن في المقابل –وعلى النقيض تماما- قفز الى السطح محاولات جدية لمعالجة الخلاف العميق بين ايران والسعودية من خلال اللقاءات التي جرت الطرفين قبل اسابيع.

أحد الامثلة الصارخة في هذه التغيرات السريعة, الخطوات التي قامت بها دولة الامارات تجاه كل من تركيا والسعودية. كانت الامارات أول من حرض على قطيعة وحصار قطر, وأول من انخرط في الصراعات الاقليمية في كل من تونس وليبيا واليمن وشاركت بالمال والسلاح والضغط السياسي. اليوم, شعرت الامارات أنها ورطت نفسها في صراعات استنزفت منها المال والجهد دون نتائج تذكر, لذا فإنها – كما ذكر في كثير من التقارير- قامت بمراجعات عميقة حول سياساتها الخارجية وتوصلت الى قناعات بأنه يجب القيام بانعطافه حادة وتغيير مسار سفينتها باتجاه التصالح مع الدول التي تربطها بها علاقات سياسية أو اقتصادية, ولهذا فان سرعة التقارب مع تركيا بعد موجة العداء الحادة وكذلك الالتقاء مع قطر في منتصف الطريق واعادة فتح القنوات مع الرياض أكدت ان الامارات ذاهبة الى اجراء تغييرات جدية على سياساتها الخارجية. لكن في المقابل فان الامارات من اسرع الدول في تطبيع علاقتها مع دولة الاحتلال وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وامنية مما يشير الى أنها ذاهبة باتجاه معاكس للقضية الفلسطينية ومستلزماتها.

مثال اخر, الانعطافة الحادة في العلاقات المصرية القطرية, والتي كانت في السنوات الماضية مثالا للعداء والمواجهة, والتي شملت اجراءات مصرية حادة ضد قطر. اليوم تبدلت الصورة تماما وعادت العلاقات طبيعية كما كانت, وجرى التركيز على الاستثمارات القطرية في مصر وتطوير التبادل التجاري بين البلدين.

أما قمة المصالحة الخليجية الـ41 التي احتضنتها مدينة العلا السعودية فقد ارتكزت على قاعدة عنوانها "تصفير المشاكل", فبعد 43 شهراً من الأزمة التي عصفت بدول الخليج , تم التوصل الى صيغة لإنهاء الخلاف الذي نشب بين(السعودية والإمارات والبحرين) إضافة إلى مصر من جهة، وقطر من جهة أخرى, غير ابن البعض شككك في نجاح هذه المصالحة معتبرا ان ما حصل هو مجرد "مصالحة شكلية"، أو هي "استدارة تكتيكية" وأن "المصالحة الخليجية ما زالت بعيدة".

أما تركيا التي تلعب دورا سياسيا فعالا وقويا في الشرق الاوسط من خلال نفوذها السياسي وقوتها الاقتصادية , فقد اضطرت هي الاخرى الى القيام باستدارة واضحة لاعادة تنظيم وترتيب علاقاتها بدول الشرق الاوسط . على مدار العامين الماضيين، حاولت تركيا القفز على الخلافات التي تسببت فيها دخولها على خط المتاعب في الشرق الأوسط، خاصة في مصر وسوريا وليبيا موقفها من حصار قطر ، فضلا عن تأزم علاقاتها مع اسرائيل.

لكن بعد عدة أزمات طاحنة واجهت الصعيد الاقتصادي التركي ،وفي ظل اضطرار حكومة حزب العدالة والتنمية لاتخاذ تدابير اقتصادية صعبة، وايضا في ظل تراجع احتمالات فوز الحزب بانتخابات 2023، وفي ظل تغيرات سياسية كبيرة، عملت أنقرة على لملمة أوراقها المبعثرة في علاقاتها مع الشرق الاوسط, ومن ثم بدأت حملتها في ترميم علاقاتها بدول المنطقة وطي الخلافات معها , وبدأت في الزيارات المتبادلة بينها وبين تل ابيب ثم انتقلت الى الامارات ومن ثم الى مصر والسعودية. لقد قامت السياسة التركية الجديدة على ايجاد مساحة لتقبل الخلاف بينها وبين هذه الدول والتركيز أكثر على المصالح المشتركة معها خاصة في المجال الاقتصادي.

(3) القضية الفلسطينية غائبة

في خضم هذه التغيرات والمصالحات والمعادلات الجديدة في منطقة الشرق الاوسط تبدو القضية الفلسطينية وكأنها غير موجودة على أجندة الزعماء والقادة. وهذا واضح من خلال اللقاءات والزيارات التي عقدت ولم تتطرق الى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سوى تصريحات باهتة. ان الاتفاقات الابراهيمية التي دفعت عددا من الدول العربية للتطبيع مع الاسرائيلي, وهذا الغزل السياسي الذي نسمعه دوما بين السعودية ودولة الاحتلال , فضلا عن تبجح قادة الاحتلال بأن هناك دولا عربية على قائمة التطبيع , كل هذا يوحي بنجاح كل من واشنطن وتل ابيب في عزل القضية الفلسطينية عن مجرى التطبيع.

اقرأ أيضاً: الأمين العام للمبادرة الوطنية د. مصطفى البرغوثي: تسهيلات غزة كذب وذر للرماد في العيون

ربما عزز هذا المسار المأساوي والسوداوي وصول المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى طريق مسدود , وكذلك بعد اتساع قوة اليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي والذي يرفض حل الدولتين ويعتبر الضفة الغربية جزءاً من أرض إسرائيل التوراتية.

لقد ادارت العديد من الدول العربية ظهرها للقضية الفلسطينية وفضلت ان تحتال على شعوبها من خلال ايهامها ان الاتفاقات الابراهيمية تهدف الى تحقيق السلام, وانها ستستغل علاقتها بدولة الاحتلال لبذل مزيد من الجهد لاعادة الحقوق الفلسطينية. لقد تخلت كل من الولايات المتحدة واوروبا عن لعب دور سياسي, باعتبار انه لا توجد فرصة لحل نهائي, وانه لا يمكن اجبار اسرائيل على تقديم تنازلات سياسية, وبالتالي تركز جهودها في تعزيز دور السلطة الفلسطينية وفي تحسين الاوضاع الاقتصادية في الضفة وغزة. هذا تحول خطير ويمنح دولة الاحتلال ان تتحرك كيفما شاءت دون قيود او معوقات سياسية في الشرق الاوسط.

غير أن ما يبقى ضوء في نهاية النفق, ان القضية الفلسطينية حاضرة في قلوب وعقول الشعوب العربية, وكذلك القوى الحية, والتي لا تزال تعارض التطبيع وتدعم حركات المقاطعة ولا تتردد في دعم المقاومة ضد الاحتلال. كما أن حضور المقاومة الفلسطينية على ساحة الصراع تعزز من قدرتها على افشال الكثير من المخططات التي تهدف الى تذويب القضية الفلسطينية ودمج دولة الاحتلال في المنطقة.

صحيح ان الصورة محزنة ومؤلمة, لكن الرهان على قوة وعدالة القضية الفلسطينية وعلى حضور مناصريها ومؤيديها وكذلك على حالة الارباك التي تعيشها دولة الاحتلال تعزز من فرض تغير هذه الخارطة يوما ما وانقلابها على من حاولوا تزوير الحقيقة وتقبل الظالم على حساب المظلوم.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo