قراءة في كتاب الأمير لميكافيلي

كتاب الأمير
كتاب الأمير

ربما صاحب الكتاب نفسه لم يتوقع له كل هذه الشهرة التي حظي بها، بدليل أنه لم يعطه من العناية ما يكفي للتهذيب اللغوي، أو الصياغة البلاغية، فهو اعتقد أنه مجرد يقدم مجموعة من النصائح لأحد أمراء عصره، راجياً على أعلى تقدير أن يأخذ هذا الأمير ببعضها، ومتوقعاً في ذات الوقت أن يلقي بها الأمير إلى صناديق القمامة.

لم يكن يتوقع قطعاً أن تتحول هذه النصائح إلى فلسفة سياسية قائمة بذاتها، وإلى منهاج يتبعه معظم السياسيين، فهو الذي كان لا يطمع في أكثر من أن تجد كلماته آذاناً صاغية لدى أميره الذي يقدم له الكتاب، كيف له أن يتوقع أن آلاف الأمراء والسياسيين والزعماء سيتلقفون هذه الكلمات، ويلتزمون بحذافيرها، رغم كل ما أحاط بها من الأوصاف المستقذرة والسيئة، ورغم أنها ذهبت مثلاً لكل ما هو قبيح ودنيء، إلا أنها في الحقيقة كانت معبرة عن حال الكثيرين ممن يتشدقون برفضها في العلن.

أفكار كتاب الأمير لميكافيلي كانت حصيلة تجاربه الشخصية في السياسة والحياة العامة، إضافة إلى قراءاته لأحداث عصره وما يحيط به من التفاعلات السياسية والاجتماعية، وهو أراد كما قال في بداية كتابه: أن يقدم هذه التجارب للأمير حتى يستفيد منها للحفاظ على سلطته وإمارته، فالحفاظ على السلطة من وجهة نظره هي الغاية الكريمة، التي من أجلها يمكن اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة، الشريفة منها وغير الشريفة، بل إنه حث الأمير على أن لا يعبأ بالفضائل لأنها من وجهة نظره تعبر عن ضعف الأمراء أو ستؤدي إلى الضعف، فالكرم يؤدي إلى الفقر، ولين الجانب يؤدي إلى تمرد الرعية، والبحث عن رضا العامة وهْم، لأن هذا الرضا متقلب، ولا يمكن الاعتماد عليه في الحفاظ على السلطة.

في كل الأحوال لقد كان مدار الكتاب أو جملة النصائح التي قدمها ميكافيلي لأميره هي: كيف يحافظ على السلطة، وكيف يبقى في السلطة مهما كلف ذلك من تجاوز للقيم والأخلاق، والملفت أن ميكافيلي وهو يسرد الأمثلة على الأمير التي اعتمد عليها في نصائحه، لم يلجأ إلى التجميل أو التفسير، بل سردها كما هي، وأشار بوضوح إلى ما يريده من هذه الأحداث، وربما هذه الطريقة هي التي دفعت البعض إلى الاهتمام بكتابه على اعتبار أنه يقدم الحقائق كما هي، ويكشف طبائع الأمور دون تجميل أو تورية.

في بداية كتابه يخاطب ميكافيلي أميره بأن هذا الكتاب هو أغلى وأثمن ما يستطيع تقديمه له، فهو لا يستطيع لفقره تقديم الهدايا الثمينة، لكنه يقدم له خلاصة تجاربه التي يعتبرها أهم وأثمن من كل الهدايا الأخرى، وهو يستأذن الأمير أن يقبل هذه النصائح حتى وإن جاءت من مواطن ليس له نفوذ، لأن الأمير من الضروري أن يكون أميراً حتى يعرف طبيعة شعبه، كما أنه يجب أن يكون أحد الرعية كي يعرف الحقائق المتعلقة بالأمراء.

بعد هذه المقدمة من ميكافيلي يشرع في سرد أنواع الدول الجمهورية منها والملكية، لكنه يركز على الملكية في نصائحه، ربما كما قال هو لأنه تحدث عن الجمهوريات في كتاب آخر، وربما لأن الأمير المستهدف من هذه النصائح هو سليل أسرة ملكية وراثية، ويسعى لإقامة ملكية وراثية، ثم بدأ يبين له أسباب ضعف هذه الممالك، ووسائل الحفاظ على الأراض الجديدة التي يسيطر عليها، وفي أثناء ذلك يشير إلى خطورة أولئك الذين ساعدوا الملك في تثبيت ملكه، لأنهم سيتحولون من وجهة نظر ميكافيلي إلى عبئ على الملك، لأنهم ساعدوه طمعاً في تحسين ظروفهم الخاصة، وكأنه يشير إليه بضرورة التخلص من هؤلاء دون الالتفات إلى مساعدتهم له ووقوفهم إلى جانبه..!

وفي كل الأمثلة التي كان ميكافيلي يذكرها للأمير كان يركز فيها على المواصفات والمؤهلات التي يجب أن تتوفر في الأمير لمواجهة الأزمات المحتملة، وبدون شك فإن الكثير مما قاله أثناء عرضه لا يجانب الصواب، سواءً فيما يتعلق بالأزمات المحتملة، أو سبل مواجهتها، فهو سياسي ذو خبرة، لكن الملفت أنه لم ينشغل كثيراً فيما هو أخلاقي، خاصة فيما يتعلق بآليات مواجهة الأزمات، فالأخلاق لم تكن تعني له شيئاً أكثر من الضعف، وإن كان في إحدى محطات الكتاب يطلب من الأمير أن يتحلى ببعض الصفات الأخلاقية في العلن، شريطة أن يخالفها كلها في السر إذا دعت الحاجة لذلك، فليست الأخلاق في ذاتها هي المهمة، الأهم هو الحفاظ على السلطة والبقاء فيها، وهذا بالنسبة له هو معيار النجاح والفشل، يظهر ذلك بوضوح في كل ما يطرحه من الأمثلة والنماذج، حتى عند ذكره لنموذج موسى عليه السلام فهو يرى أنه لم يستطع القيام بما قام به إلا لأنه يمتلك السلاح وليس لأنه نبي، فهو يقول : " ولو كان كل من موسى عليه السلام وكورش وتيسيوس عزلاً من السلاح لما استطاعوا أن يجعلوا الآخرين يحترمون دساتيرهم ولفترات الطويلة ....." رغم أن التاريخ لا يثبت مقولته حول امتلاك موسى عليه السلام للسلاح.

اقرأ أيضاً: "براءة الذمة".. كيف عرقلت شفافية الترشح للانتخابات المحلية بالضفة؟

انظر مثلا إلى هذا المثال الذي طرحه للأمير والذي تحدث فيه عن محاولة الاسكندر السادس أن يعلي من شأن ابنه الدوق ويجعل منه حاكماً، حيث يستمر في ذكر تفاصيل التآمر على القتل والقسوة، حتى أنه تخلص من أحد أهم معاونيه الذين رسخوا ملكه بطريقة وحشية، بحجة أنه من يتحمل مسئولية العنف الذي أغضب الناس من الدوق، بعد سرد التفاصيل يقول ميكافيلي ص 42 من كتابه: " وعندما أراجع أعمال الدوق لا أجد ما ألومه عليه، بل إني أجد لزاماً عليّ أن أرفعه كمثال يجب أن يحتذيه كل من حصل على سلطان بسبب ما قامت به قوات غيره وحسن طالعهم، وهو بسبب شجاعته العظيمة وطموحه الكبير لم يكن أمامه أن يفعل غير ما فعل، وما أحبط خططه إلا قصر حياة الاسكندر ومرضه هو شخصياً، لذلك فإن على كل من يعد الضروريات لتأمين إمارته الجيدة أن يؤمن نفسه ضد أعدائه، وأن يكسب الأصدقاء وأن تكون له الغلبة بالقوة أو الخديعة، وأن يحبه شعبه ويخشاه، حيث يسير جنوده خلفه ويحترموه، وأن يسحق من يستطيع أن يؤذيه أو من الممكن أن يؤذيه... "

من خلال المثال السابق وغيره الكثير مما سرده ميكافيلي يبدو واضحا بلا لبس كيف أن ميكافيلي كان مخلصاً للشعار الذي أورده في ثنايا كتابه " الغاية تبرر الوسيلة "  ورغم أنه لم يكثر الحديث عن هذا الشعار، إلا أن كل ما ورد في كتابه هو تثبيت لهذه الفكرة القذرة التي تبيح اللجوء إلى كل الوسائل الشيطانية وغير الشيطانية، الأخلاقية وغير الأخلاقية، في سبيل الوصول إلى أهدافه العليا التي اختصرها بالحفاظ على السلطة.

في موضع آخر يتحدث ميكافيلي عن الفضائل البشرية التي من المفترض أن تتوفر في الأمير، فنجده لا يهتم إلا بالحفاظ على الأخلاق التي تبقيه في السلطة، وأن يحترس في نفس الوقت من أن يفتضح أمره فيما يتعلق بالرذائل التي تهدد سلطانه، يقول ص 70: " ولما كان من غير الممكن أن يحوز على كل هذه الصفات – يقصد الصفات الحسنة – وذلك لأن صفات البشر لا تسمح بذلك، كان من الضروري بالنسبة له أن يكون ذا حكمه كافية تمكنه من تحاشي أي فضيحة بسبب رذيلة من هذه الرذائل، والتي تفقده الولاية ويقي نفسه من شرور الصفات الأخرى، وإذا لم يستطع ذلك فعليه أن يهمل تماماً هذه الرذائل، ويحترس جداً من تلك التي تسبب هلاكه، ويجب ألا يعبأ بفضح تلك الرذائل التي يصعب بدونها المحافظة على الولاية، وذلك لأننا إذا نظرنا للأمور نظرة صحيحة لوجدنا أن بعض ما يبدو فضائل قد يهلكنا لو طبقناه، والبعض الآخر من الرذائل قد يسبب سلامة الإنسان وسعادته ....."

وفي موضع آخر أيضاً وهو يقارن بين أن يكون الأمير محبوباً أو مهاباً يقول: " ومن هنا تبزغ مشكلة المفاضلة بين وجوب أن يكون الأمير محبوباً أكثر منه مهاباً، أم مهاباً أكثر منه محبوباً، والجواب ينبغي على الإنسان أن يكون محبوباً ومهاباً في نفس الوقت، ولما كان من الصعوبة الحفاظ على الصفتين معاً فإن المهابة في هذه الحالة أفضل بكثير إذا كنا لا نستطيع إيجاد الصفتين معاً، لأنه من الممكن أن نقول عن عامة البشر أنهم ينكرون المعروف، ويحبون المراوغة في الحديث ومرائين، حريصون على تجنب المخاطر، راغبون في الكسب ، هم أعوانك طالما استفادوا منك، وهم يفدونك بالدم وما يملكون وبحياتهم وولدهم حين لا يكون هناك داع لذلك، ولكن حين تقترب الأخطار ينقلبون عليك، إن الأمير الذي يعتمد على وعود رعاياه يهلك إلا إذا تهيأ بالمعدات الكافية .... " انظر كيف ينظر إلى الناس وكيف يصورهم.

انظر أيضاً ص 78 " .... ولهذا السبب كان الأمير يضطر إلى أن يعلم جيداً كيف يتصرف كالحيوان، فهو يقلد الثعلب والأسد، لكن الأسد لا يستطيع أن يحمي نفسه من الفخاخ، والثعلب غير قادر على مواجهة الذئاب، على المرء إذن أن يكون ثعلباً ليواجه الفخاخ، ويكون أيضاً أسداً ليخيف الذئاب، ومن يريد أن يكون أسداً فقط لا يفهم الأمور جيداً، فعلى الأمير إذن أن لا يحفظ عهداً يكون الوفاء به ضد مصلحته، وألا يستمر في الوفاء بوعد انتهت أسباب الارتباط به "

انظر كذلك ص 85 " ... ومن هنا يتضح أن الأعمال الصالحة قد تجلب الكراهية كالأعمال الشريرة، ولذلك فإن على الأمير الذي يريد الحفاظ على ولايته أن يقترف بعض الشرور "

وكذلك ص 100 "...وليس هناك طريقة أخرى أمام المرء يقي بها نفسه شر التملق سوى أن يدع الناس يدركون أنه يحب أن يسمع منهم الحقيقة ، لكنك تفقد احترامهم لك لو سمحت لكل منهم أن يخبرك بالحقيقة، لذلك على الأمير أن يتبع طريقة ثالثة وهي: أن يختار من ينصحونه من حكماء الناس، ويمنحهم الحرية التامة كي يتحدثوا إليه عما يسألهم من أمور فقط، وليس عن أي شيء آخر، وعليه أن يسألهم عن كل شيء ويسمع رأيهم، ثم يتناول الأمر مع نفسه وعلى طريقته الخاصة .... "

هذه باختصار نبذة عن ذلك الكتاب الأسود وتلك الأفكار السوداء التي تتناقض مع كل ما هو جميل وأخلاقي وديني، إلا أنها وبكل أسف تحولت إلى نصوص مقدسة لدى الكثير من الزعماء، لا يعرفون غيرها ولا يتعبدون إلا بتعاليمها.

ورغم أن هذا الكتاب يعبر ربما عن اطلاع ومعرفة كبيرة بواقع السياسة في زمن كاتبه، وفيه من الخير القليل جداً، إلا أن هذا الخير يصبح غير ذات جدوى لأنه يأتي في سياق موضوع واحد وحيد لا ثاني له وهو: كيف تحافظ على السلطة؟ وكيف تبقى فيها؟ بغض النظر عن الوسائل والسبل التي يمكن اللجوء إليها، وللمرء أن يتساءل: كيف تغلبت مثل هذه التعاليم الشيطانية على تعاليم السماء وباتت مرجعاً مقدساً للكثير ممن يدعون الدفاع عن القيم والمثل، وممن يدعون أنهم يناضلون من أجل توفير حياة كريمة لشعوب مستغفلة ومغيبة، إنها السلطة وما أدراك ما السلطة، إنها آخر ما ينزع من نفوس البشر حتى الصالحين منهم ، فكيف بغير الصالحين؟

المصدر : خاص-زوايا
atyaf logo