بنت البلاد

صورة الحافلة التي اختطفتها دلال ومجموعتها
صورة الحافلة التي اختطفتها دلال ومجموعتها

"حضرتُ إلى البيت صباح الخميس، وكان نزولي لأراك ولكن كان حظي زفت. لم أودعك ولم أراك يا أبي، ولكن تأكد مهما غبت.. تأكد بأنني موجودة معك، وأعيش معكم. لا تذرف دمعًا كثيرًا، فقد صرت بنتًا للبلاد"

هذا ما خطّته الفدائية دلال المغربي قائدة عملية كمال عدوان في رسالة أبقت عليها في معسكرها في بيروت قبل الذهاب إلى تنفيذ العملية .. "قد صرت بنتًا للبلاد" وأنا أقرأ خاتمة الرسالة هذه رأيت وجه دلال المغربي معبأ بالفرح الحزين، أو يكون الفرح حزينًا؟! يكون وأنت تذهب إلى البلاد وهي محتلة!

"البلاد" هذا المشاع الذي نُطلقه على أرضنا المحتلة دون اتفاق نقول عنها "البلاد" الجدات في نزاع الموت يقلن: "رجعوني عَ البلاد" الأجداد يقولون في نقاشهم حول أمر ما: "مكانش في البلاد" أحفادهم يرددون: "وكتيش نرجع ع البلاد" والمسافر إن زار يهدي زائره أشياء فيقول وهو يقدمها: "جبتلك هاد من البلاد فيرد عليه: "سقالله على أيام البلاد" والصبايا يتباهن بأثوابهن بقولهن: "عندي ثوب بيشبه ثوب البلاد" المغتربون عندما ينون الرجوع إلى أحضان الأمهات يقولون: "البلاد طلبت أهلها" ومحمد العارضة الأسير الذي حفر الأرض ليخرج من نفق الحرية قال بعد الإمساك به" أكلنا من صبر البلاد.

ما أوسع هذه الكلمة، ما أعذبها وهي تخرج من القلب، إنه ارتباط روحي لم أعرف مثله، الجميع يُسمي بلاده بالدولة، والمدينة، والممكلة، إلا نحن لنا البلاد!

اقرأ أيضاً: تهديد مقاومة غزة للاحتلال.. مجازفة خطرة أم آخر أوراق الضغط؟

استشهدت دلال المغربي برصاصة في الرأس بعد خوض المعركة في تل أبيب هي وثلاثة عشر مقاتل لبناني ويمني وفلسطيني، وكانت هي الأنثى الوحيدة بينهم وقائدتهم جميعًا، هذا الدلال الذي نبت من أم لبنانية وأب فلسطيني في مخيم صبرا في بيروت عام 1958 وعاشت المخيم بكل تفاصيله وأكملت المعرفة والتحقت في صفوف الفدائيين بانضمامها لحركة فتح، والتحاقها في خدمة التمريض ثم خدمة الاتصالات الخاصة بمنظمة التحرير ثم خوضها للعديد من الدورات العسكرية ومشاركتها في الكثير من العمليات الفدائية في ذلك الوقت، ثم حصولها على رتبة ملازم أول بعد خضوعها لدورة عسكرية علم 1977 أهلتها لتتلقى عرضًا لتعمل بموجبه في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في إيطاليا، لكنها رفضت ذلك العرض، لأن التدريب كان لزيارة البلاد، وليس للسفر إلى إيطاليا!

وذهب الدلال إلى البلاد!

كانت الخطة التي أعدها خليل الوزير "أبو جهاد" تقول بأن تقود دلال المغربي مجموعة من المقاتلين تقوم بعملية إنزال على الشاطئ الفلسطيني المحتل بمدينة حيفا ثم التوجه ناحية مدينة تل أبيب لتدور المعركة هناك، كان هدف العملية هو أخذ مجموعة من الرهائن والمفاوضة عليهم من أجل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين.

في ساعات الفجر الأولى، انطلق المقاتلون عبر زورقين مطاطين من السواحل الشمالية لمدينة صور باتجاه فلسطين المحتلة، حتى أصبحوا على بعد 25 كم جنوب حيفا، حيث استغرق إبحار المجموعة التي ضمت ستة أفراد في زورق، وسبعة آخرين في زورق آخر، أكثر من 48 ساعة الأمر الذي تسبب في غرق أحد الزورقين ووفاة عنصرين من المجموعة، هما خالد عبد الفتاح يوسف وعبد الرؤوف عبد السلام علي.

وصلت المجموعة إلى شواطئ حيفا ثم سيطروا على عدة سيارات ثم حافلة، وحافة أخرى نقلوا ركابها إلى الحافلة الأولى فأصبح لديهم 63 شخصًا كرهائن لينطلقوا بهم نحو تل أبيب. وهناك حدثت المعركة الكبيرة، حيث ومع اقتراب الحافلة من تل أبيب وضع جيش الاحتلال الحاجز تلو الآخر وتمركز الجنود بمعدات قتالية في منطقة هرتسليا قرب نادي يحمل اسم "كانتري كلوب" فاطلقوا النار بغزارة ناحية الحافلة فأوقفوها، في ذلك الوقت كانت إحدى الراكبات الإسرائيليات تخاطب الجنود باللغة العبرية من أجل التفاوض خوفًا على حياتهم وكي لا تقع مجزرة في الحافلة، لكن الجيش كان لديه أوامر من قائد العملية إيهود باراك بعدم التفاوض مع من أسماهم بالمخربين، لم يستمع الجنود للمناشدة، ورددوا من خلف مكبر الصوت أنه لا تفاوض ويجب على المقاتلين أن يُسلموا أنفسهم .. وكيف يحدث هذا؟! ومتى كان المقاتل يسلم نفسه لقاتله هكذا دون أن يخوض المعركة بشرف!

عندما استقلت دلال الحافلة ومعها المجموعة المقاتلة خاطبت الركاب قائلة: "نحن لا نريد قتلكم نحن نحتجزكم فقط كرهائن لنخلص إخواننا المعتقلين في سجون دولتكم المزعومة من براثن الأسر، نحن شعب يطالب بحقه في وطنه الذي سرقتموه ما الذي جاء بكم إلى أرضنا" وقتها كانت فتاة اسرائيلية تعرف اللغة العربية فقامت بترجمة ما قالته دلال عليهم، فعم الصمت ثم أردفت دلال قائلة: "لتعلموا جميعًا أن أرض فلسطين عربية وستظل كذلك مهما علت أصواتكم وبنيانكم على أرضها"

وبينما كان يعلوا صوت مكبر الصوت مطالبًا المقاتلين بتسلم أنفسهم، قررت دلال أن تطلق الرصاص معلنة قيام جمهوريتها الفلسطينية، وجرت وقتها معركة عنيدة أصيبت فيها دلال واستشهد أكثر من خمسة مقاتلين من مجموعتها، حتى بدأت الذخيرة بالنفاذ، والجيش يطلق قذائفه عامدًا وقاصدُا ألا يخرج أحد من الحافلة ليشهد على جمهورية دلال المغربي، ووحشية الجنود الذين قتلوا مواطنيهم في سبيل ألا يعلو صوت الضحية.

كانت المعركة الأولى التي يخوضها المقاتلون الفلسطينيون على أرضه المحتلة، وجهًا لوجه، وقتها استنشق المقاتلون نسيم البلاد التي شرد منها أهلهم، وتجردوا من وحل لقب لاجئ لساعات معدودة، وماتوا وهم مواطنون على أرضهم بكامل الحلم.

نامت دلال المغربي وقد صارت بنتًا للبلاد كما أخبرت أبيها، ويؤنسها أحد عشر مقاتلًا استشهدوا معها، بينما نجى أحدهم ووقع في الأسر وعندما سأله الجنود عن قائد المجموعة أشار بيده على "بنت البلاد" فلم يصدق الجنود، وعندما كرر إيهود بارك السؤال على المقاتل الأسير، فقال المقاتل وهو يشير بيده: القائدة دلال! .. لم يصدق الجنرال أن هذه الفتاة التي لم تبلغ من العمر عشرين عامًا هي من قادت مجموعتها التي قتلت من جيشه 36 جنديًا مدججًا بالحقد والسلاح قبل أن تستريح في بلادهما، فقام الجنرال المهزوم بشد شعر دلال المغربي وركلها بعد استشهادها، وهي اللحظة التي أُرخت في الصورة الشهيرة.

في 17 من تموز عام 2008 أبرم حزب الله اللبناني صفقة لتبادل الأسرى مع إسرائيل وكان جثمان الشهيدة دلال المغربي على رأس تلك الصفقة ولكن بعد فحوص الحمض النووي (DNA) أظهرت عدم إعادة الجثمان، وأن الجثث المعادة هي لأربعة قتلى مجهولي الهوية، ولا يزال جثمانها غير معروف المكان، لكن من المؤكد أنه في فلسطين، وليبقى هناك، لأنه كما قال نزار قباني": بعد ألف سنة سيقرأ الأطفال العرب الحكاية التالية: أن أحد عشر رجلا بقيادة امرأة اسمها دلال المغربي تمكنوا من تأسيس فلسطين بعدما رفض العالم أن يعترف لهم بحق تأسيسها ...إنه لا يهم أبدًا كم دامت هذه الجمهورية الفلسطينية، المهم أنها تأسست وكانت أول رئيسة جمهورية لها اسمها دلال المغربي.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo