نحن حيث لا تكون أمريكا وإسرائيل

بينيت وبايدن
بينيت وبايدن

نحن الذين اكتوت أجيالنا منذ مئة عام أو يزيد من الصهيونية، حتى صرنا أيقونة للعذاب، والتشرد، والموت المجاني، والحرمان من أبسط مقومات الحياة الآدمية.

نحن الذين نعرف معنى الهرب من الأوطان تحت النار، حيث حدثنا آباؤنا عن تغريبة الفلسطينيين عام 48م، وكيف أُُجبر الآمنون في حينه على ترك ديارهم، وبيوتهم، وحقولهم التي كانوا ينتظرون حصادها ليقضوا بها حاجاتهم، ويزوّجوا بها شبابهم، حتى أن بعضهم كاد يعجز عن التقاط أولاده، بل ربما حدث هذا بالفعل مع بعضهم كما حدثنا الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، تركوا هناك تاريخهم كله، وأحلامهم كلها، وانطلقوا هائمين على وجوههم، ليس فقط تحت عين العالم وبصره، بل بدعم العالم وإرادته.

لم ينس الفلسطينيون بعدُ رحلةَ عذابهم، ليس لأن آباءهم حدثوهم عنها وحسب، إنما لأن رحلة العذاب هذه لم تنته بعد، فمنذ أن غادر الفلسطينيون أرض تاريخهم وهم من لجوء إلى لجوء، يدفعون أثماناً جديدة لكل أحداث الدنيا، ولا يزالون حتى يوم الناس هذا بلا وطن، حتى من تبقى منهم داخل فلسطين المحتلة عام 48، أو عام 67، لا تزال إسرائيل ترفض الاعتراف لهم بأي من حقوقهم، وتعمل جاهدة على اقتلاع من تستطيع منهم، دون أي شعور بالذنب لا من إسرائيل، ولا من الجهات التي أنشأتها على أنقاضنا، أو الجهات التي واصلت احتضانها، ودعمها بكل وسائل التوحش.

تابع الفلسطينيون طوال العقود السابقة التي تلت عام 48 كيف أن إسرائيل ليست وحدها المسئولة عن نكباتهم المتتالية، إنما جهات دولية على رأسها أمريكيا، التي لم يتورع رئيسها السابق عن التبجح بمنح إسرائيل حق تملك أقدس ما يفاخر به الفلسطينيون، وكيف شرّع لإسرائيل حق انتزاع القليل المتبقي في الضفة الغربية، ومحاصرة الفلسطينيين فيما يشبه الأرخبيل من الجزر مقطوعة التواصل، على أرض هي في الأصل كلها لهم.

أمريكيا إذن بالنسبة للفلسطينيين ليست دولة محايدة، إنما معادية، هي من تتحمل مسئولية بقاء معاناتهم كل تلك العقود، إلى جانب الدول المنشئة لإسرائيل، والداعمة لها، الرافضة لأي محاولة لإجبار إسرائيل على منح الفلسطينيين ولو الحد الأدنى غير العادل أصلاً الذي اعترف لهم به العالم.

لست من المغرمين بروسيا، ولا حتى بالاتحاد السوفيتي السابق، الذي كان بدوره أول من اعترف بإسرائيل، بل ودعم وجودها، ظناً منه أن منشئيها يساريون، أو اشتراكيون مثله، ففي حينه لم تكن معاناة الشعب الذي اقتُلع من أرضه ذات قيمة في نظر السوفييت، فبالنسبة لهم هناك ما هو أهم، وهو جلب الحلفاء، حتى لو كان هؤلاء الحلفاء قد أنشأوا كياناتهم على جماجم غيرهم، لكن السوفيت على الأقل، ومن بعدهم روسيا، لم يمثلوا الحاضنة الداعمة لإسرائيل، وباستثناء خطيئة اعترافهم بإسرائيل ساعة نشأتها يمكن الاعتراف لهم بالكثير من الدعم الذي قدموه للفلسطينيين، حتى وإن كان هذا الدعم في سياق ما كان يسمى حربهم الباردة.

اقرأ أيضاً: تهديد مقاومة غزة للاحتلال.. مجازفة خطرة أم آخر أوراق الضغط؟

ليس هذا هو محط اهتمامي، فأنا أعرف كما يعرف كثيرون أن روسيا لا تقاتل في أوكرانيا دفاعاً عن فلسطين، أو دفاعاً عن حقوق المستضعفين في الأرض، ولم تفعل ذلك في سوريا أيضاً، إنما دفاعاً عن مصالحها هي، حتى لو تناقضت مصالحها مع مصالحنا فإنها ستنتصر لمصالحها، دون أي التفات لمصالحنا، وهذا ما تفعله كبريات الدول التي تسعى لأن تحافظ على امبراطورياتها العابرة للحدود، والقارات.
كما أننا لا نُكنّ أي عداوة لشعب أوكرانيا، ولا لأي شعب في العالم، وإن كنا ندين صمتهم على مأساتنا، وتشريدنا، وليست المعادلة محصورة فيما يردده البعض ( عدو عدوي صديقي ) فهذه ليست معادلة دقيقة دائماّ، فقد نلتقي نحن وأعداؤنا على عداوة جهة ما، وقد نختلف مع أصدقائنا على صداقة جهة ما، لكن المعادلة بالنسبة لنا كفلسطينيين، بل وكعرب كالتالي:

هناك جهة دعيّة اسمها إسرائيل، تأسست على أسس استعمارية محضة، بدعم وتمويل جهات دولية معروفة، لا تزال تقدم لها الدعم، وترفض الاعتراف بجريمتها في حق شعبنا، ومأساته، وتشرده من أرضه.

هذه الدولة المسماة إسرائيل ليست تعبيراً عن مجرد رغبة في حل المسألة اليهودية التي خلقها الغرب، ولم نخلقها نحن، ولو كان للمسألة أي جذور أخلاقية لبادروا بحلها دون أن يفتحوا بدلاً منها جرحاً جديداً لشعب مسالم مسكين كالشعب الفلسطيني، ولربما كان عليهم أن يمنحوهم أرضاً من أرضهم، أو يعملوا على دمجهم داخل المجتمعات التي يتواجدون فيها، لكن المصالح الرأسمالية لا قلب لها، ولا أخلاق تحكمها سوى أخلاق المصالح، حتى لو تسببت هذه المصالح بمآسي إنسانية فظيعة، فهذا آخر ما تفكر فيه الرأسمالية المتوحشة.

إسرائيل إذن جزء من مشروع استعماري معروف التفاصيل، بل رأس حربة لهذا المشروع، ومن مآسي القدر أن تكون فلسطين مركز اهتمام هذا المشروع الشيطاني، وبالتالي فإن المنطق الأخلاقي، والوطني، والقومي يفرض علينا أن نرى في إسرائيل عدونا المركزي، وفي كل من يدعمها، ويحتضنها، خاصة وأن هذا الداعم تحول إلى غول يسعى لاقتضام كل الأرض، يرى في نفسه إلهً، يشرع الحقوق، ويعيد تقسيم خرايطة العالم، وفقاً لمصالحه.

ومن المؤسف أن دولة كأوكرانيا لم نعاديها في يوم من الأيام، أن يبدي رئيسها تعاطفاً مع قاتلينا، دون الالتفات إلى مأساتنا.

لا يهمنا دينه، أو معتقده، فهذا بينه وبين الله، كما أننا لا نعادي أدياناً بعينها، لكننا نعادي من يعادينا، ونستنكر دعم من لا عداوة لنا معه لقاتلينا، تلك هي الصورة التي نراها في الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي تكاد تكون حرباً عالمية، حتى لو انحصرت مواجهة الجيوش في جغرافيا أوكرانيا، فهي حرب بين طرفين، إحداها دولة حاضنة لإسرائيل التي ندفع من دمنا ثمن وجودها، تسعى هذه الدولة لأن تكون قطب العالم الأوحد، وبين دولة أخرى ليس بيننا وبينها تاريخ عدائي، سوى بعض الاختلاف على تدخلات غير متفق عليها، تجري هذه الحرب على أرض دولة لا نتمنى لشعبها سوى كل الخير، والسلام، لكنها انحازت- أو على الأقل حكامها- لناهبي أرضنا، فكيف سنحدد موقفنا من حرب كهذه؟

نحن لن نكون إلا ضد أمريكا وإسرائيل، هذا هو موقفنا المبدئي، طالما تصر إسرائيل على احتلال أرضنا، وطالما تصر أمريكا على دعم احتلالها لأرضنا، ونتمنى لهذه الحرب أن تخلصنا، وتخلص العالم من غطرسة القطب الواحد، حيث من المعروف أن هامش قدرتنا على الحركة في عالم القطب الواحد لم يعد كافياً لممارسة نضالنا، بينما لم تكن المسألة كذلك في عالم القطبين، ولن تكون كذلك فيما لو تعددت الأقطاب.

المسألة أوضح من أن توضح، نحن كشعب يعرف معنى التهجير، والحروب لا نتمنى لغيرنا أن يعيش ذات مأساتنا، لكن من الطبيعي أن نقف ضد الجهة المنشئة، والداعمة، والحاضنة لهذه المأساة، حتى ونحن نعرف أن أياً من أطراف الصراع لا يقاتل لأجلنا، ولن يفعل ذلك في المستقبل، إنما أقصى ما نتمناه أن يتم تهشيم غطرسة وتفرد الجهة الأكثر عداءً لنا، والأكثر دعماً لأعدائنا، ومرة أخرى دون أن نتمنى لشعب أوكرانيا إلا السلامة من كل سوء، كما نتمنى ذلك لكل شعوب العالم.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo