يتامى الاتحاد السوفيتي العرب

الاتحاد السوفيتي
الاتحاد السوفيتي

عاد الدم يجري في العروق، وحضرت صور الاتحاد السوفيتي في المخيلة، واستعاد اليساري العربي معجمه اللغوي الذي كان في طي النسيان، وعاد اللسان ينطق بكلمات من قِبل: الطبقة العاملة، والكادحين، والإمبريالية، والطليعة، وكل ما تَعرف أو لا تعرف من تلك المصطلحات التي كانت تلمع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حتى جاء انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات وانهارت معه، حتى أنها أصبحت مادة للتندر على المثقفين اليساريين عندما يتكلمون بها في ما تبقى لهم من ظهور في محاضرات أحزابهم التي ما زالت تحتفظ بمسميات سوفيتية مثل: اللجنة المركزية، والنقابات والاتحادات.

"وكنت أظن وخاب ظني" أو كما قال سعدون جابر "بنيتُ في الرمل بيتي وكم تخون الرمال، حسبت أنكِ ملكي وكم يشط الخيال"

هو فعلًا شطط فكري، ورغبة كبيرة في الحضور بعد الأفول، فالفرق كبير بين الرفيق فلاديمير لينين، وفلاديمير بوتن، فالأول كان في عصرٍ يحتاجه وكان صنيعة وقته، والثاني أيضًا صنيعة وقته، لكنه يطمح لأن يُعيد امبراطورية مفقودة، ولن ينجح في ذلك على أغلب تقدير، لأنه لا يمتلك سوى السلاح الذي يهدد به، والسلاح هو أداة بدائية في عصر التكنولوجيا، فالإرتكان على السلاح ينجح في السيطرة المؤقتة لكنه يفشل في استدامة الحياة بمفهومها الشامل، فكل ما يحيط بنا من تكنولوجيا هي صناعة أمريكية، فلو أردات أمريكا الآن منع خدمة الانترنت عن العالم سوف يصاب العالم بسكتة دماغية دون استخدام طلقة رصاص واحدة، وهذه هي القوة الحقيقة، فبجانب قوة السلاح هناك قوة مساندة وهي قوة التكنولوجيا والاقتصاد.

نعود إلى "يتامى الاتحاد السوفيتي" من العرب.

لقد عاش هؤلاء اليتامى على فكر ليس فكرهم، وتماشوا معه بل وعشقوه ودافعوا عنه "ببسالة" لأنه جاء بنظريات تحفزهم على العمل، وتحفظ لهم – معنويًا - حقوقهم كبشرٍ في ظل تغول الرأسمالية واحتدام الصراع مع المحتل الإسرائيلي وظهور تشكيلات فلسطينية تبحث عن داعم في ظل تواطئ أمريكي مطلق لإسرائيل، ولم يبخل الاتحاد السوفيتي في ذلك، فقد وفر الدعم بالمال والسلاح والتدريب لأغلب حركات التحرر الفلسطينية، وفتح جامعاته وكلياته الحربية للفلسطينيين والعرب مما عمل على خلق جيل عربي كامل ينادي بشعارات لينين وكتبه التي كانت تُقرأ على أنها تعليمات أقرب إلى القداسة، حتى ذلك القارئ الذي أصبح فيما بعد مثقف يساري يعمل في حزب أو اتحاد عام إلى شخصية استعلائية بنظرته لغيره من غير المنتمين إلى الدعوة الأممية التي ينادي فيها والتي أخذته دون علمه إلى الرف الذي يجلس عليه الآن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والذي كشف لذلك المثقف أنه كان يجلس في موسكو وهو يظن أنه في القاهرة أو بيروت أو بغداد أو في منافي الشتات الفلسطيني ومعسكرات التدريب، حتى شاع قول "إذا أمطرت السماء في موسكو، رفع الشيوعيون العرب القبعات.

في الحقيقة لم يكن انهيار الاتحادي السوفيتي هو السبب الرئيس في اضمحلال الفكر اليساري العربي، بل يتعلق الأمر في تسيد الشعار اليساري العربي دون وجود أرضية محلية له تعبر عن واقع المجتمع الذي يعيش به والتعبير عن معاناته الحقيقية وتخليه عن مبدأ الديمقراطية والحرية السياسية والحفاظ على تقاليد حزبية تحمل بذور الدكتاتورية التي هي في الأساس مبنية على قمع الحرية ومعاداة الشعب.

اقرأ أيضاً: الأسرى يتمردون على انتهاكات الاحتلال بحقهم ويهددون بخطوات غير مسبوقة

يحضر أمامي فيلم "وداعًا لينين" وأنا أقرأ ما يصدر عن بعض مثقفي اليسار وأتخيلهم مكان الأم التي كانت مدافعة شرسة عن الاشتراكية في ألمانيا الشرقية وتصاب بغيبوبة وهي في غيبوبتها ينهار جدار برلين وتتوحد ألمانيا بشقيها الشرقي والغربي وتدخل الرأسمالية بكل صورها إلى الحياة في ألمانيا الشرقية، فتستفيق الأم من غيبوبتها ولكن تبقى صحتها ضعيفة مما يضطر الابن بالتفكير بما قد تعانيه أمه من زيادة في المرض لو علمت أن ما كانت تؤمن به قد ضاع وأن رموز الاشتراكية قد ماتت أثناء غيابها بالمرض. فيقوم بتدبير خطة مع أخته وجيرانه وكل من قد تتعرض لهم أمه بأن يقنعوها بأن الوضع كما كان عليه قبل غيابها وأن شيئا لم يتغير. تتتابع الأحداث الهزلية في محاولات إخفاء الابن كل ما قد يضر بصحة أمه فيبدأ بتسجيل أخبار مزيفة ويذيعها لها بالفيديو على أنها بث حي وغير ذلك من الأفكار التي تعلم الأم كذبها في النهاية ولكن بعد ما تكون قد بدأت بتوقع الأحداث والأخبار. وأظن أن المثقف اليساري يحفظ هذا الفلم غيبًا بل بعضهم بكى عندما شاهده، لأنه يعبر بصدق عن المأساة التي حدثت جراء انهيار الحلم والأمل والنموذج، فأرجو أن يرجع ذلك المثقف إلى الفيلم ويشاهده مرة أخرى كي لا ينصدم صدمة الأم، وكي لا يضطر الابن إلى ممارسة الخدعة التي قام فيها، فلا اتحاد سوفيتي قادم، بل هناك من سوف يلعب فينا كما لعب أجداده، فما معنى أن يخرج بوتن بعد موقف اسرائيل المساند لأوكرانيا ضد روسيا بتصريح لا يعترف فيه بأن الجولان أرض "إسرائيلية"، وأن تصرح الخارجية الروسية بشعورها بالقلق من استمرار الاستيطان وأن القدس ليست عاصمة لإسرائيل، وكأننا ما زلنا بقضايانا أدوات يستخدمها رؤساء العالم من أجل مصالحهم البحتة، ألم يحن الوقت لأن يعي المثقف العربي ذلك؟! أم أنه ما زال يعيش في رومانسية المطرقة والمنجل وأغاني فيكتور جارا!

لن يحقق بوتين أحلام أحد، هذا إن استطاع الخروج من فخ أوكرانيا، خاصة هؤلاء قليلو الحيلة، ممن هُزموا ذهنيًا وفكريًا، ويبحثون الآن عن أمجاد ينسبونها إلى الفكرة القديمة، بينما ارتضوا أن يكونوا جزًءا من سلطات دكتاتورية عبارة عن ذيول للرأسمالية العالمية، ويتلقون فتاتها ويسبحون بحمدها وفي الغرف المغلقة يشتمونها، إن الحرب الروسية على أوكرانيا لن ترد لكم اعتباركم، ولن تعيد إحياء ما مات من أفكار ونظريات، وإن كانت شوف تشبع غريزة الانتقام والتشفي من القطب الرأسمالي، ولكن حتى هذا غير موجود إلا في أحلامكم، فمن يموت في هذه الحرب، هو سوفيتي قديم، وكان يومًا ما يرفع شعار المطرقة والمنجل.

إن كان اليسار ما زال متحفز للفكرة، فالمجتمع العربي كله أيضًا متحفز لليسار الذي يعبر عنه وليس اليسار الذي يحمل نفس المصطلحات والأفكار التي أثبتت فشلها، أو على الأقل لم تستطع الاستمرار والمنافسة، يسار مدافع عن الإنسان وحقه في الحرية، وليس في احتكاره في نقابة أو حزب من قبل لجنة مركزية، وإن كان يجب علينا أن نأخذ موقفًا من هذه الحرب فليكن موقف الضحية التي تتعاطف مع الضحية، لا الضحية التي تبحث عن الانتقام والتشفي من ضحية أخرى تموت الآن تحت آلة حرب يتفاخر البعض بأنها تحمل العلم السوفيتي الأحمر.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo