المقاومة الشعبية مخرج لتباين البرامج

المقاومة الشعبية
المقاومة الشعبية

يحتاج الفلسطينيون أولاً بكل مكوناتهم إلى الاعتراف بحجم العقبات التي تمنع كل برامجهم من تحقيق غاياتها، وأنهم الآن جميعاً لم يعودوا قادرين على المضي قدماً في ذات سياق مقولاتهم السياسية، حيث اصطدمت كل البرامج الفلسطينية بحائط فولاذي لم يعودوا قادرين على تخطيه.

المفاوضون مثلاً لم يعودوا قادرين على مواصلة الزعم بأن المفاوضات التي انطلق قطارها في مدريد أواخر عام 1991م قادرة على تحقيق الهدف الذي وضعه الفلسطينيون لأنفسهم، المتمثل في دولة على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين، حيث لا يوجد شريك إسرائيلي الآن- وعلى ما يبدو لن يوجد في المستقبل- يمكنه الموافقة على إزالة العقبات المعرقلة لحل من هذا النوع، والمتمثلة أولاً: في المستوطنات التي تتعامل معها إسرائيل كجزء لا يتجزء من الدولة، ويسكنها الآن قرابة 670000 مستوطن، ينتمي معظمهم إلى الأحزاب اليمينية التي ترى في الضفة الغربية أراض إسرائيلية، بل أراضي التاريخ الإسرائيلي الذي لا يمكن التنازل عنه، ثم ثانياً: في مركزية قضية القدس في العقل التوراتي اليهودي الذي عززته الدولة منذ نشأتها عام 48 وحتى يومنا هذا، ما يجعل فكرة التنازل عنها لغير اليهود فكرة غير قابلة للتطبيق، ويمكنها أن تودي بالمستقبل السياسي لأي سياسي إسرائيلي يمكنه الموافقة على شيء كهذا، ثم ثالثاً: في قضية العودة التي لا يوافق عليها حتى أكثر الأحزاب يسارية في إسرائيل.

بكلمة أخرى: لا يمكن مواصلة بيع وهم قدرة المفاوضات على تحقيق هذا الحد من الأهداف الفلسطينية، والذي اعتبره الفلسطينيون حدهم الأدنى، وأقصى ما يمكنهم التنازل عنه، وأظن أنه كما لا يوجد زعيم إسرائيلي واحد يمكنه الموافقة على المطالب الفلسطينية كاملة بهذا الخصوص، فلن يوجد زعيم فلسطيني واحد يمكنه التنازل عن هذا الحد، الذي يراه الفلسطينيون متدنياً أصلاً، وأنهم ما وافقوا عليه إلا بعد أن عجزوا عن تحقيق حلم التحرير الكامل لفلسطين.

اقرأ أيضاً: تنديد حقوقي بتعديلات رئاسية جديدة تمس القضاء الفلسطيني

في الجهة المقابلة: لا أظن أن متبني فكرة المقاومة المسلحة لا زالوا يزعمون أنهم قادرون على إزالة إسرائيل بقواهم العسكرية الذاتية، وأظنهم أصلاً لم يزعموا ذلك من الأصل، إنما كانت رهاناتهم على تحولات يمكن أن تحدث في المنطقة من شأنها أن تعيد رسم خارطة معادلة القوة، وأنها يمكن أن تكون لصالح الفلسطينيين، فيما لو توحدت جهود الأمة العربية، والإسلامية، ولقد بدا واضحاً في العقد الأخير تحديداً، وخاصة بعد انطلاق الثورات العربية أن الأمة منشغلة في قضاياها الداخلية التي استنزفت طاقتها، وأنها غير موحدة، وليس هناك ما يشير إلى توحدها خلف أي مشروع مواجه لإسرائيل، وأنها أصلاً لو توحدت فليست مؤهلة لمواجهة إسرائيل وحلفائها، الذين يمثلون القوة العالمية الحقيقية.

والأهم أن ساعة تحقق حلم كهذا في المنطقة العربية، والإسلامية فسوف تكون هناك أعراف جديدة لرسم الحقوق، تختلف عما هو سائد الآن، فالقوة في دنيا الناس هي التي تفرض الحقوق وليس العكس، وبالتالي فلن يعيقها ما يمكن للفلسطينيين أن يقبلوا به الآن، لكن في هذه اللحظة الراهنة تحديداً لا يتوقع من العرب والمسلمين خوض حرب وجود مع إسرائيل.

ليس هذا فحسب ما يفرض ذاته على طاولة بحث المقاومين، بل ما آلت إليه المقاومة فعلياً في فلسطين، وربما في غزة تحديداً، والتي استطاعت إسرائيل حصرها داخل حدود قطاع غزة ضمن معادلة هدوء مقابل هدوء، وصار أقصى غايات الجهة الحاكمة في غزة، المتبنية لفكرة المقاومة المسلحة لإزالة إسرائيل أن تحقق شيئاً من القدرة على حصول المواطن على لقمة عيشه، ولو بالعمل في داخل الأراض المحتلة عام 48.

هذا الواقع الذي يفرض نفسه رغم كل محاولات إنكاره يعيد المقاومة إلى فرضيتها الأولى: إنها لا تستطيع إزالة إسرائيل وحدها، وأن أقصى ما تستطيعه هو الحفاظ على جذوة الصراع، أو الحفاظ على حضور فلسطين كقضية حية في الوعي العالمي.

يمكن إعادة تصوير المشهد الفلسطيني على النحو التالي:

مفاوض عجز عن تحقيق حلم الدولة على حدود الرابع من حزيران لعام 67، ومقاوم عجز عن تحقيق حلم إزالة إسرائيل، وكلاهما بحاجة إلى بقاء القضية الفلسطينية حية، أملاً في تحقيق منجز ما، ولو على طريق تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الفلسطينية.

إن كانت الصورة كذلك- وشخصياً أزعم أنها كذلك- فهناك ما يمكن لكل الأطراف الفلسطينية أن تتوافق عليه، خاصة بعد أن اختلفوا على المفاوضات، والمقاومة المسلحة، حيث يمكن للمقاومة الشعبية أن تنجز مهمة الحفاظ على ديمومة الصراع، أو شعلة الصراع كما يعبر البعض، ويمكنها أيضاً أن تحافظ على حيوية القضية الفلسطينية، وفاعليتها.

تجربة الفلسطينيين مع المقاومة الشعبية عريقة، وقديمة، بل وأسطورية، ولطالما استطاعوا بواسطتها أن ينجزوا ما لم يستطيعوا إنجازه بوسائل أخرى، لقد عرف الفلسطينيون عدة انتفاضات شعبية، منذ عام 36، ثم 87، ثم 2000، وفي كل مرة كانت القضية الفلسطينية تتربع على عرش الأحداث العالمية، وتصبح القضية الأولى ليس عربياً وحسب، بل عالمياً أيضاً، ولقد حققوا بواسطتها بالفعل عدة مكاسب، فلولا انتفاضة 87 لما التفت العالم إلى حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ولما تم خلق سلطة، كان من المفترص أن تكون نواة للدولة المستقبلية، ولولا المقاومة الشعبية لما استطاع الفلسطينيون عرقلة الجدار العازل في الضفة الغربية، ولما استطاعوا تحقيق منع البوابات الالكترونية.

طالما أن الاختلاف الفلسطيني على برامج متوقفة فعلياً، وطالما أنهم متوافقون على وسيلة نضالية يمكنها تحقيق بعض أهدافهم القريبة، فلماذا لا نجعل من المقاومة الشعبية عنواناً لمحطتنا النضالية الحالية، إن كانت ستحل لنا مشكلة اختلاف البرامج المتوقفة أصلاً، وإن كانت ستضمن مشاركة المواطنين ذاتهم في ميدان المعركة، ولا تكتفي بمنتسبي الفصائل، ما يضمن انتقال الفعل الشعبي إلى فعل إيجابي مشارك في العملية النضالية، وليس فعلاً سلبياً يكتفي بالمراقبة، والشكوى أحياناً من التهميش؟

لم يعد أمام الفلسطينيين الكثير ليضيعوه، ولا الوقت الكافي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبرأيي فإن فكرة المقاومة الشعبية يمكنها حقيقة إن لم تحقق نتائج إيجابية، أن تمنع حدوث مزيد من الانهيارات، وأن تقلل من حجم الخسائر، خاصة أن تكلفتها مما يمكن للفلسطينيين تحمله لأطول مدة ممكنة، دون أن تهدد قدرتهم على البقاء، الذي ربما هو آخر أهم أسلحتنا التي من شأنها تحطيم الحلم الصهيوني بجعل فلسطين وطناً خالصاً لليهود.

المصدر : خاص-زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo