دراسة: "إسرائيل" سجنت نفسها بعقلية الجدران تحت ذريعة الأمن

الجدار
الجدار

لا تستطيع الشخصية اليهودية الإسرائيلية العيش خارج الأسوار التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتها الانعزالية وتاريخها الاستعماري، وبلورة عصرية متجددة لخضوع المجتمع الإسرائيلي لهيمنة عقلية الجدار.

فلم يكن من المستغرب أن تطلق "إسرائيل" على عمليتها العسكرية ضد قطاع غزة في أيار / مايو 2021 مصطلح "حارس الأسوار" بعد أن أصابت عقلية الجدار إسرائيل بالهوس الأمني، فهي تختزل في داخلها منظومة متنوعة من التحصينات التقليدية والمتطورة التي نتج منها تشييد جدار الفصل العنصري والجدار الأمني داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والجدران العازلة على الحدود المصرية والأردنية واللبنانية والسورية.

فهل عقلية الجدار عقدة أمنية مرتبطة بتوجهات سياسية وأحداث تاريخية وممارسات عنصرية عانت جرّاءها الجاليات اليهودية والمجتمع الإسرائيلي، أم إنها عقيدة دينية متجذرة داخل الوعي اليهودي؟، تساؤل حاول أن يجيب عليه "أحمد هيكل" أستاذ الدراسات العبرية الحديثة في جامعة حلوان بمصر من خلال دراسته حول "عقلية الجدار اليهودية".

ويؤكد "هيكل" من خلال هذه الدراسة أن "إسرائيل تحولت  إلى سجن كبير، بما يشي بهيمنة مطلقة لعقلية الجدار وحياة الغيتو على الشخصية اليهودي، بعد أن أصبحت إسرائيل داخل أسوارها العالية السجين والسجان في آن واحد؛ فقد سجنت نفسها طوعاً خلف جدرانها المحصنة التي يزعم الإسرائيليون أنها “جدران أمنية”، وهي مسألة لها جذورها الدينية والتاريخية والنفسية والسياسية، التي اعترف بها اللواء الإسرائيلي السابق "يهودا فاخ" قائد اللواء الإسرائيلي في مقالة نشرها عام 2020 عندما قال: "إن تشييد الجدران والتحصين المتواصل هو في الواقع نوع من الحصار الذاتي الذي له من دون شك آثارا بعيدة المدى تتجاوز التأثيرات العسكرية والأمنية، إذ يُعدّ التحصين منذ القدم نقطة ضعف كثيراً ما يتم اللجوء إليها بدافع الخوف".

وبين "هيكل" أن النصوص التوراتية كشفت عن المفاهيم العقدية والجذور التاريخية المؤسسة لعقلية الجدار، وبيّنت الدوافع الحقيقية وراء تحصّن اليهود وراء الجدران، حيث سعى اليهودي على مر التاريخ لبناء جدار يكفل له الخصوصية الدينية والشعور بالأمن – الوقتي – كما في حصون خيبر وقلاع يثرب، أو من أجل إشباع رغبته النفسية في الانغلاق كما في الغيتو الأوروبي، أو ربما وسيلة تمكّنه من الاستيلاء على أرض فلسطين كما في المستعمرات الصهيونية.

وأكدت الدراسة أن عقلية الجدار تعكس بجلاء مجموعة من العقائد والعُقَد المتأصلة في الوعي اليهودي الكاره للآخر، بحيث أصبحت عمليات بناء الجدران مؤخراً تجسيداً واقعياً للجشع الاستيطاني الصهيوني ولسياسة فرض الأمر الواقع، فلم يعد الجدار مجرد حاجز مادي خرساني، بل أداة قمعية استعمارية أيضاً، فرض من خلالها اليهود أيديولوجيتهم الانعزالية على أصحاب المكان، عندما وضعوا الشعب الفلسطيني في سجن كبير. وبذلك تبدلت الصورة تماماً، فبدلاً من أن يتقوقع اليهود داخل أسوارهم المنيعة طواعية، إذا بهم يجبرون الشعب الفلسطيني على الانعزال في الطرف الآخر من الجدار داخل معازل عنصرية.

وهنا يتطلب إدراك الأبعاد الحقيقية لعقلية الجدار الرجوع إلى التشريعات اليهودية التي وضعت أسس العزلة ورسّختها في وعي اليهود عبر التاريخ. ويمكن رصد مظاهر تلك العزلة في القوانين الدينية المتعلقة بطقوس الزواج والطهارة والختان والدفن وشروط الطعام الموافق للشريعة اليهودية “الكاشير” وطقوس الأعياد والاحتفالات الدينية وغيرها من الأوامر والنواهي اليهودية، وتنهض الانعزالية اليهودية على فكرة اختيار الرب لبني إسرائيل، فاليهود يُعدّون “أنفسهم عنصراً مميزاً، وشعباً مختاراً”.

وأوضحت الدراسة أن تشريعات العزلة اليهودية وقوانينها أثرت سلباً في اليهود، وتطبّعهم بصفات مقيتة، مثل: الحقد، والكراهية، والانطوائية، والتشاؤم، والكآبة، والتشكك، والعدوانية، واللامبالاة، وغيرها من الصفات السلبية التي أثّرت في تعاملات اليهود مع الآخرين واحتفظت بها طقوس احتفالاتهم الدينية، مثل: “طقوس عيد الفصح التي تحولت إلى مجالس للدعاء على الأمم الأُخرى، ويوم التاسع من شهر أغسطس اليهودي الذي هو أيضاً فرصة لإيقاد نار الكراهية للبشر جميعاً، وصبّ اللعنات عليهم.

وفي المقابل، أصبحت تشريعات حاخامات اليهود وقوانينهم الاستعلائية تعزلهم في داخلها، وأصبح الجدار في ظل عقيدة العزلة مفهوماً معنوياً راسخاً في أعماق الوعي اليهودي، وأيديولوجية حياتية لا يمكن التخلص منها.

كما أكدت الدراسة أن الهدف الآخر من بناء الجدران في فلسطين هو الحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة، كما أن بناء الجدار يُحدث اضطراباً ديموغرافياً في توزيع السكان الفلسطينيين، فيجبر الفلسطينيين على الرحيل أو البقاء داخل قراهم المحاصرة في معاناة دائمة، وفي المقابل يعمل الجدار على ضم أكبر عدد ممكن من المستعمرات إلى داخله.

وتشير الدراسات العبرية المتعلقة بالنشاط الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين إلى أن “معظم المستوطنات التي أقيمت في المناطق المحتلة بعد حرب 1967 قد أحيطت بالجدار، بالرغم من السيطرة شبه المطلقة للجيش الإسرائيلي على المناطق، بَيْد أن عقلية الجدار كانت هي المسيطرة، حيث كان منظر المدن والقرى عن بعد يبيّن وجود جدار وأبراج حراسة في الاتجاهات الأربعة وكأنها قواعد عسكرية وليست قرى أو مدناً عادية.

وكشف "هيكل" أن أحداث التاريخ تثبت أن الأسوار المنيعة والحصون القوية والقلاع الحصينة قد توفر الأمن والحماية بعض الوقت، لكن من المستحيل أن توفر الأمن والحماية طوال الوقت، بل إنها تشي بدلالات واضحة عن سيطرة هواجس الشك والخوف والرعب الأمني والتوتر النفسي على المجتمع المتحصن خلف الجدار، وتبرهن على إصابته بمرض "فرط الانعزال".

كما تثبت أحداث التاريخ أن الإنسان ابتكر وسائل عديدة لهدم الحصون وتجاوز الجدران واقتحام الأسوار، بل على العكس نجد أن عقلية الجدار تخلق حالة من العدائية والكراهية والتحدي بين طرفَي الجدار، وتضفي حالة من الغموض والريبة المتبادلَين، وهي بؤرة للتوتر ومصدر للمآسي، وتبثّ إحساساً دائماً بأن الآخر المتربص وراء الأسوار يسعى للاقتحام والانتقام في أي وقت.

وخلصت الدراسة أن عقلية الجدار اليهودية تحولت من مجرد كونها إرثاً تاريخياً نشأ في إطار الرغبة الاختيارية للعزلة بأبعادها المتعددة، إلى متلازمة مَرَضِيّة يهودية متأزمة عمقت داخل الوعي اليهودي الإحساس بالتميز والنقاء العرقي، ومشاعر الإيمان بالقوة التي لا تُقهر، والقدرة على البطش بالأعداء، والاستعلاء على الآخر، وهو أمر استغلته الصهيونية كأداة فاعلة لتحقيق الأطماع الاستعمارية التوسعية في فلسطين.

المصدر : متابعة - زوايا

مواضيع ذات صلة

atyaf logo